• Sunday, 24 November 2024
logo

ما المشاركة؟ وما رباعية الديمقراطية؟ وما العلاقة بينهما؟

ما المشاركة؟ وما رباعية الديمقراطية؟ وما العلاقة بينهما؟
المشاركة‏,‏ تاريخيا‏,‏ هي مصطلح فلسفي صكه أفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد وذلك بسبب قسمته الثنائية للعالم‏,‏ إذ ثمة عالم أطلق عليه العالم المعقول في مقابل عالم آخر أطلق عليه العالم المحسوس‏.‏ العالم المعقول مملوء بالمثل‏(‏ بضم الميم‏),‏ وهي عبارة عن أصول الأشياء الموجودة في العالم المحسوس‏,‏ بمعني أن كل شئ محسوس أصلا أو نموذجا أو مثالا موجودا في العالم المعقول‏.‏ ولا صلة مباشرة بين المعقول والمحسوس‏,‏ إنما الصلة غير مباشرة بمعني أن المحسوس يشارك مثاله أو يحاكيه دون أن يكون مطابقا له‏.‏ ولهذا يمكن أن تشترك عدة أشياء في مثال واحد‏.‏ ولكن المشاركة في هذه الحالة‏,‏ لن تكون إلا مشاركة بالمحاكاة‏.‏ والمحاكاة لا تعني التطابق بين المعقول والمحسوس‏,‏ إنما تعني أن المحسوس يشير إلي أن ثمة ماوراء‏.‏ والماوراء المحسوس يقال عنه إنه ميتافيزيقي‏,‏ أي ما وراء الطبيعة باعتبار أن الفيزيقي مرادف للطبيعي‏.‏

والسؤال بعد ذلك هو علي النحو التالي‏:‏

ماذا تعني المشاركة إذا انتقلنا بها إلي السياسي‏,‏ أي إلي المجتمعات البشرية باعتبار أن السياسي مرادف للاجتماعي لأن الإنسان حيوان سياسي وهو أيضا حيوان اجتماعي؟‏.‏
جواب هذا السؤال وارد في ثلاث محاورات لأفلاطون‏:'‏ الجمهورة‏','‏ رجل الدولة أو السياسي‏','‏ القوانين‏'.‏ المحاورة الأولي تخبرنا عن مسار الحكم‏,‏ والمحاورة الثانية تكشف عن أنواع الحكومات‏,‏ والمحاورة الثالثة تبين أصل الحكم‏.‏ وأفلاطون‏,‏ في هذه المحاورات‏,‏ متسق مع نفسه‏,‏ إذ هو يبدأ بالمثال‏,‏ وهو هنا الدولة النموذجية‏,‏ أي الدولة التي لا تفسد‏.‏ وهذه الدولة‏-‏ المدينة هي التي يحكمها الملك الفيلسوف الذي هو شبيه بالإله ومعه النبلاء الذين يتسمون بالنبالة والشهرة‏.‏ وبعد هذه الدولة تأتي دولة الأغنياء ثم دولة الديمقراطية والتي لا يحكمها قانون لأنها محكومة بالحرية‏.‏ وفي نهاية المطاف تأتي دولة الطغيان وفيها تكون المدينة مريضة‏,‏ ويكون المجتمع مريضا ويكون الحاكم مجرد طبيب معالج‏.‏
وقد اضطر أفلاطون إلي فصل دولة الملك الفيلسوف عن الأنواع الثلاثة الأخري‏,‏ وإلحاقها بعالم المثل‏,‏ ومن هنا وصفه لها بأنها‏'‏ مدينة في السماء‏'.‏ وهي كذلك لأنها ممتنعة التحقق لامتناع وجود الفيلسوف الكامل‏,‏ وبالتالي امتناع الحكم العادل‏,‏ أما الحكومات الأخري فهي أدني من مدينة السماء‏:‏ الديمقراطية أقل صلاحية من الأرستقرطية‏,‏ وهذه أقل صلاحية من الملكية لأن الفرد‏,‏ في الملكية‏,‏ أقدر علي تطبيق الدستور من الكثرة‏,‏ والكثرة أقدر من العامة‏,‏ ومن ثم فمشاركة العامة ممتنعة‏.‏ ولهذا فإن أفلاطون يتحامل علي الديمقراطية بوجه عام‏,‏ ويتحامل عليها بدرجة خاصة بعد هزيمة أثينا الديمقراطية في الحرب البلوبونيزية‏,‏ ومن ثم دعا في كتابه‏'‏ القوانين‏'‏ إلي ضرورة صياغة البشر في قوالب جامدة بحيث يسعدون ويحزنون في أمور واحدة وفي وقت واحد‏.‏
ثم جاء أرسطو‏_‏ تلميذ أفلاطون‏_‏ وقال عن الديمقراطية في كتابه‏'‏ السياسة‏'‏ إنها حكومة الأغلبية الفقيرة والمتدنية‏,‏ ومن ثم سميت الديمقراطية‏,‏ بعد أرسطو‏,‏ بأنها حكومة الغوغاء‏.‏ وكان لكل من أفلاطون وأرسطو سلطانا أفضي إلي اختفاء نظم ديمقراطية‏.‏ ولا أدل علي ذلك من أن المؤرخ اليوناني بوليبيوس‏(204-122‏ ق‏.‏م‏)‏ قد ارتأي أن الديمقراطية هي حكم العامة التي ترفض إعمال القانون أيا كان‏.‏
وفي العصر الهلينستي فقد لفظ‏'‏ ديمقراطية‏'‏ معناه الأصلي من حيث هو حكم الشعب وأصبح معناه كل ما ليس ملكيا‏.‏ وفي جمهورية روما ذاع لفظ‏Libertas‏ أي الحرية ومعناه عدم الخضوع للأجنبي‏,‏ أما الحر‏Liber‏ فهو الذي ليس عبدا‏Servas.‏ وهكذا اختفي لفظ ديمقراطية لأكثر من ألفي عام‏,‏ إذ لم يعد اسما علي نظام حكم‏.‏ وبعد انتهاء هذه الفترة الزمانية بزغت الديمقراطية ليس بفعل لحظة زمانية‏,‏ إنما بفعل تركم كمي أفضي‏,‏ مع الوقت‏,‏ إلي نقلة كيفية‏.‏

والسؤال هنا‏:‏

كيف؟

نقطة البداية‏,‏ في هذا التراكم‏,‏ هي ثورة كوبرنيكوس في القرن السادس عشر عندما أعلن مفجرها وهو كوبرنيكوس‏(1473‏ ـ‏1543)‏ أن الأرض ليست مركزا للكون‏,‏ وبالتالي لم يعد الإنسان مركزا للكون‏,‏ ومن ثم لم يعد في إمكانه توهم القدرة علي امتلاك الحقيقة المطلقة‏,‏ ومن هنا تعريفي للعلمانية بأنها التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق‏.‏
وفي القرن السابع عشر تأسست نظرية‏'‏ العقد الاجتماعي‏'‏ عند كل من هوبز‏(1588-1679)‏ ولوك‏(1632-1704).‏ وموجز النظرية أن المجتمع من صنع الإنسان وليس من صنع الله‏.‏ ومن العلمانية ونظرية‏'‏ العقد الاجتماعي‏'‏ تأسس التنوير‏.‏ ونوجز معني التنوير في عبارة كانط التي وردت في مقالته المشهورة والمنشورة في عام‏(1784)‏ وعنوانها‏'‏ جواب عن سؤال‏:‏ ما التنوير؟‏','‏ كن جريئا في إعمال عقلك‏'.‏ ومعناها عندي‏'‏ لا سلطان علي العقل إلا العقل نفسه‏'.‏ بيد أن كانط يميز بين استعمالين للعقل‏:‏ أحدهما الاستعمال الخاص للعقل‏,‏ والآخر الاستعمال العام للعقل‏.‏ الاستعمال الأول يحرر عقل الفرد والاستعمال الثاني يحرر عقل الجمهور‏.‏ وبعد هذا التمييز يتساءل كانط‏:‏ هل نحن في عصر متنور أم في عصر التنوير؟‏.‏
جوابه في الحالة الأولي بالنفي‏,‏ وفي الحالة الثانية بالإيجاب؟‏.‏ ويقصد بالنفي في الحالة الأولي أن الجمهور لم يتحرر بعد من الوصاية من أجل تحقيق استقلال العقل‏.‏ ويقصد بالإيجاب‏,‏ في حالة الثانية‏,‏ أن ثمة نفرا من البشر قد استنار‏.‏ والمطلوب إذا شيوع العقل العام المستنير‏.‏
وفي القرن التاسع عشر نشأت الليبرالية والأب الروحي لها هو الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل‏(1806-1873)‏ وهي تعني أن سلطان الفرد فوق سلطان المجتمع‏,‏ ومن ثم فإن التوافق الاجتماعي من شأنه إسكات الفرد المتميز بسبب طغيان الأغلبية‏.‏

هذه هي رباعية الديمقراطية‏:‏ العلمانية ونظرية العقد الاجتماعي والتنوير والليبرالية‏.‏

والسؤال إذن‏:‏

ماذا تعني‏'‏ المشاركة‏'‏ في إطار رباعية الديمقراطية؟؟

لن تكون المشاركة فلسفية علي النمط الأفلاطوني‏,‏ إذ ليس لدينا ديمقراطية نموذجية موجودة في عالم المثل وهو عالم مطلق يخلو من أن نكهة نسبية‏,‏ إنما لدينا ديمقراطية من صنع الإنسان‏,‏ أي ديمقراطية نسبية‏.‏ وأدلل علي ما أذهب إليه بما حدث من تطور للتعريف التقليدي للفظ الديمقراطية‏.‏ فقديما قيل إن الديمقراطية تعني حكم الشعب‏,‏ وكان وقتها الشعب محكوم بعدد معين يمكن الرجوع إليه في اتخاذ القرار‏.‏ أما اليوم ومع انفجار السكان لم يعد ممكنا تحقيق هذا الأمر‏,‏ بل إن لفظ الشعب لم يعد له أي معني بعد بزوغ الثورة العلمية والتكنولوجية‏,‏ إذ نشأت علاقة جديدة بينها وبين رجل الشارع‏.‏

كيف؟‏.‏

لقد أفرزت الثورة العلمية والتكنولوجية ظاهرة جديرة بالتنويه وهي الظاهرة الجماهيرية‏Mass‏ فيقال مثلا‏Mass_media‏ أي وسائل إعلام جماهيرية و‏Mass_culture‏ أي ثقافة جماهيرية و‏Mass-society‏ أي مجمتع جماهيري و‏Mass_production‏ أي إنتاج جماهيري‏(‏ وترجمته إنتاج بالجملة خطأ‏).‏ و‏Mass_man‏ أي إنسان جماهيري‏,‏ وقد ترجمته رجل الشارع لأنها ترجمة قريبة من الواقع‏.‏ ومن البين أن مصطلح‏'‏ رجل الشارع‏'‏ هو المصطلح الذي ينبغي أن تدور عليه المصطلحات الأخري لأن الثورة العلمية والتكنولوجية وإن كانت من إبداع النخبة‏,‏ إلا أن منجزاتها‏_‏ في عصر الظاهرة الجماهيرية‏_‏ أصبحت في حوزة الجماهير‏,‏ وبالتالي فإذا دخلت الجماهير في علاقة عضوية مع الثورة العلمية والتكنولوجية فإنه سيكون في مقدورها دفع الثورة إلي التقدم أو منعها من التقدم‏.‏
ومع الاختيار الثاني تتفاقم المشكلات إلي الحد الذي يمكن أن يهدد مسار الحضارة الإنسانية‏.‏ ومن هنا كانت الأمم المتحدة محقة عندما قررت جمعيتها العامة في‏8‏ ديسمبر‏1986‏ توعية جماهير العالم بما أسمته بـ‏'‏ التنمية الثقافية‏'‏ لمدة عشر سنوات إبتداء من‏1988‏ حتي‏1997‏ أي حتي قبل الدخول إلي القرن الحادي والعشرين بثلاث سنوات‏.‏ ومعني ذلك أن شرط الدخول إلي القرن الجديد هو أن تتحول الجماهير إلي مثقفين متنورين‏.‏
ويترتب علي هذه النتيجة وهي أن رجل الشارع ليس في إمكانه‏'‏ المشاركة‏'‏ في رباعية الديمقراطية إلا بأن يكون قد أصبح علي وعي بالمكون الثالث من المكونات الأربعة للديمقراطية‏,‏ وهو مكون التنوير‏.‏ العلاقة إذن عضوية بين رجل الشارع والتنوير والديمقراطية‏.‏ والمشاركة لا تتم إلا في هذه العلاقة‏.‏
وتأسيسا علي ذلك يمكن القول إن فشل ثورة‏23‏ يوليو‏1952‏ في تحقيق البند السادس من بنودها الستة وهو تأسيس دولة ديمقراطية مردود إلي عدم وعيها بهذه العلاقة‏.‏ ومع تحكم حركة الإخوان المسلمين في رجل الشارع لم تسترد الثورة وعيها الغائب‏.
Top