ما المشاركة؟ وما رباعية الديمقراطية؟ وما العلاقة بينهما؟
والسؤال بعد ذلك هو علي النحو التالي:
ماذا تعني المشاركة إذا انتقلنا بها إلي السياسي, أي إلي المجتمعات البشرية باعتبار أن السياسي مرادف للاجتماعي لأن الإنسان حيوان سياسي وهو أيضا حيوان اجتماعي؟.
جواب هذا السؤال وارد في ثلاث محاورات لأفلاطون:' الجمهورة',' رجل الدولة أو السياسي',' القوانين'. المحاورة الأولي تخبرنا عن مسار الحكم, والمحاورة الثانية تكشف عن أنواع الحكومات, والمحاورة الثالثة تبين أصل الحكم. وأفلاطون, في هذه المحاورات, متسق مع نفسه, إذ هو يبدأ بالمثال, وهو هنا الدولة النموذجية, أي الدولة التي لا تفسد. وهذه الدولة- المدينة هي التي يحكمها الملك الفيلسوف الذي هو شبيه بالإله ومعه النبلاء الذين يتسمون بالنبالة والشهرة. وبعد هذه الدولة تأتي دولة الأغنياء ثم دولة الديمقراطية والتي لا يحكمها قانون لأنها محكومة بالحرية. وفي نهاية المطاف تأتي دولة الطغيان وفيها تكون المدينة مريضة, ويكون المجتمع مريضا ويكون الحاكم مجرد طبيب معالج.
وقد اضطر أفلاطون إلي فصل دولة الملك الفيلسوف عن الأنواع الثلاثة الأخري, وإلحاقها بعالم المثل, ومن هنا وصفه لها بأنها' مدينة في السماء'. وهي كذلك لأنها ممتنعة التحقق لامتناع وجود الفيلسوف الكامل, وبالتالي امتناع الحكم العادل, أما الحكومات الأخري فهي أدني من مدينة السماء: الديمقراطية أقل صلاحية من الأرستقرطية, وهذه أقل صلاحية من الملكية لأن الفرد, في الملكية, أقدر علي تطبيق الدستور من الكثرة, والكثرة أقدر من العامة, ومن ثم فمشاركة العامة ممتنعة. ولهذا فإن أفلاطون يتحامل علي الديمقراطية بوجه عام, ويتحامل عليها بدرجة خاصة بعد هزيمة أثينا الديمقراطية في الحرب البلوبونيزية, ومن ثم دعا في كتابه' القوانين' إلي ضرورة صياغة البشر في قوالب جامدة بحيث يسعدون ويحزنون في أمور واحدة وفي وقت واحد.
ثم جاء أرسطو_ تلميذ أفلاطون_ وقال عن الديمقراطية في كتابه' السياسة' إنها حكومة الأغلبية الفقيرة والمتدنية, ومن ثم سميت الديمقراطية, بعد أرسطو, بأنها حكومة الغوغاء. وكان لكل من أفلاطون وأرسطو سلطانا أفضي إلي اختفاء نظم ديمقراطية. ولا أدل علي ذلك من أن المؤرخ اليوناني بوليبيوس(204-122 ق.م) قد ارتأي أن الديمقراطية هي حكم العامة التي ترفض إعمال القانون أيا كان.
وفي العصر الهلينستي فقد لفظ' ديمقراطية' معناه الأصلي من حيث هو حكم الشعب وأصبح معناه كل ما ليس ملكيا. وفي جمهورية روما ذاع لفظLibertas أي الحرية ومعناه عدم الخضوع للأجنبي, أما الحرLiber فهو الذي ليس عبداServas. وهكذا اختفي لفظ ديمقراطية لأكثر من ألفي عام, إذ لم يعد اسما علي نظام حكم. وبعد انتهاء هذه الفترة الزمانية بزغت الديمقراطية ليس بفعل لحظة زمانية, إنما بفعل تركم كمي أفضي, مع الوقت, إلي نقلة كيفية.
والسؤال هنا:
كيف؟
نقطة البداية, في هذا التراكم, هي ثورة كوبرنيكوس في القرن السادس عشر عندما أعلن مفجرها وهو كوبرنيكوس(1473 ـ1543) أن الأرض ليست مركزا للكون, وبالتالي لم يعد الإنسان مركزا للكون, ومن ثم لم يعد في إمكانه توهم القدرة علي امتلاك الحقيقة المطلقة, ومن هنا تعريفي للعلمانية بأنها التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق.
وفي القرن السابع عشر تأسست نظرية' العقد الاجتماعي' عند كل من هوبز(1588-1679) ولوك(1632-1704). وموجز النظرية أن المجتمع من صنع الإنسان وليس من صنع الله. ومن العلمانية ونظرية' العقد الاجتماعي' تأسس التنوير. ونوجز معني التنوير في عبارة كانط التي وردت في مقالته المشهورة والمنشورة في عام(1784) وعنوانها' جواب عن سؤال: ما التنوير؟',' كن جريئا في إعمال عقلك'. ومعناها عندي' لا سلطان علي العقل إلا العقل نفسه'. بيد أن كانط يميز بين استعمالين للعقل: أحدهما الاستعمال الخاص للعقل, والآخر الاستعمال العام للعقل. الاستعمال الأول يحرر عقل الفرد والاستعمال الثاني يحرر عقل الجمهور. وبعد هذا التمييز يتساءل كانط: هل نحن في عصر متنور أم في عصر التنوير؟.
جوابه في الحالة الأولي بالنفي, وفي الحالة الثانية بالإيجاب؟. ويقصد بالنفي في الحالة الأولي أن الجمهور لم يتحرر بعد من الوصاية من أجل تحقيق استقلال العقل. ويقصد بالإيجاب, في حالة الثانية, أن ثمة نفرا من البشر قد استنار. والمطلوب إذا شيوع العقل العام المستنير.
وفي القرن التاسع عشر نشأت الليبرالية والأب الروحي لها هو الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل(1806-1873) وهي تعني أن سلطان الفرد فوق سلطان المجتمع, ومن ثم فإن التوافق الاجتماعي من شأنه إسكات الفرد المتميز بسبب طغيان الأغلبية.
هذه هي رباعية الديمقراطية: العلمانية ونظرية العقد الاجتماعي والتنوير والليبرالية.
والسؤال إذن:
ماذا تعني' المشاركة' في إطار رباعية الديمقراطية؟؟
لن تكون المشاركة فلسفية علي النمط الأفلاطوني, إذ ليس لدينا ديمقراطية نموذجية موجودة في عالم المثل وهو عالم مطلق يخلو من أن نكهة نسبية, إنما لدينا ديمقراطية من صنع الإنسان, أي ديمقراطية نسبية. وأدلل علي ما أذهب إليه بما حدث من تطور للتعريف التقليدي للفظ الديمقراطية. فقديما قيل إن الديمقراطية تعني حكم الشعب, وكان وقتها الشعب محكوم بعدد معين يمكن الرجوع إليه في اتخاذ القرار. أما اليوم ومع انفجار السكان لم يعد ممكنا تحقيق هذا الأمر, بل إن لفظ الشعب لم يعد له أي معني بعد بزوغ الثورة العلمية والتكنولوجية, إذ نشأت علاقة جديدة بينها وبين رجل الشارع.
كيف؟.
لقد أفرزت الثورة العلمية والتكنولوجية ظاهرة جديرة بالتنويه وهي الظاهرة الجماهيريةMass فيقال مثلاMass_media أي وسائل إعلام جماهيرية وMass_culture أي ثقافة جماهيرية وMass-society أي مجمتع جماهيري وMass_production أي إنتاج جماهيري( وترجمته إنتاج بالجملة خطأ). وMass_man أي إنسان جماهيري, وقد ترجمته رجل الشارع لأنها ترجمة قريبة من الواقع. ومن البين أن مصطلح' رجل الشارع' هو المصطلح الذي ينبغي أن تدور عليه المصطلحات الأخري لأن الثورة العلمية والتكنولوجية وإن كانت من إبداع النخبة, إلا أن منجزاتها_ في عصر الظاهرة الجماهيرية_ أصبحت في حوزة الجماهير, وبالتالي فإذا دخلت الجماهير في علاقة عضوية مع الثورة العلمية والتكنولوجية فإنه سيكون في مقدورها دفع الثورة إلي التقدم أو منعها من التقدم.
ومع الاختيار الثاني تتفاقم المشكلات إلي الحد الذي يمكن أن يهدد مسار الحضارة الإنسانية. ومن هنا كانت الأمم المتحدة محقة عندما قررت جمعيتها العامة في8 ديسمبر1986 توعية جماهير العالم بما أسمته بـ' التنمية الثقافية' لمدة عشر سنوات إبتداء من1988 حتي1997 أي حتي قبل الدخول إلي القرن الحادي والعشرين بثلاث سنوات. ومعني ذلك أن شرط الدخول إلي القرن الجديد هو أن تتحول الجماهير إلي مثقفين متنورين.
ويترتب علي هذه النتيجة وهي أن رجل الشارع ليس في إمكانه' المشاركة' في رباعية الديمقراطية إلا بأن يكون قد أصبح علي وعي بالمكون الثالث من المكونات الأربعة للديمقراطية, وهو مكون التنوير. العلاقة إذن عضوية بين رجل الشارع والتنوير والديمقراطية. والمشاركة لا تتم إلا في هذه العلاقة.
وتأسيسا علي ذلك يمكن القول إن فشل ثورة23 يوليو1952 في تحقيق البند السادس من بنودها الستة وهو تأسيس دولة ديمقراطية مردود إلي عدم وعيها بهذه العلاقة. ومع تحكم حركة الإخوان المسلمين في رجل الشارع لم تسترد الثورة وعيها الغائب.