• Sunday, 24 November 2024
logo

نظرية العدالة لدى جون رولز: الأطروحة ونقادها

نظرية العدالة لدى جون رولز: الأطروحة ونقادها
عبد الله السيد ولد أباه

يمكن القول دون مماحكة أن نظرية (العدالة التوزيعية) التي صاغها الفيلسوف الأمريكي جون رولز (1921- 2002م) تشكل أهم محاولة فلسفية بعد النظريات التعاقدية في القرن الثامن عشر لبناء قاعدة نظرية صلبة للممارسة الليبرالية الحديثة.
والمعروف أن التقليد الليبرالي المنحدر من نموذج (العقد الاجتماعي) (روسو، هوبز، لوك…) قد انقسم إلى اتجاهين: (جمهوري) يركز على البُعد المتعلق بالإرادة المشتركة والهوية الجماعية للأمة من حيث هي كلية تعاضدية، و(ليبرالي) يركز على الحقوق الفردية الأولية التي هي التجسيد الحي لمبدأ الإرادة الحرة بصفته منشأ العقد وضمانته.
وعلى الرغم من النقد الهيغلي لنظريات العقد الاجتماعي التي اعتبر أنها تضعف الكيان الجماعي باختزالها الدولة في نمط الترابط النفعي العرضي من منطلقات فردية مجردة، في حين أن الدولة هي التعبير عن روح الأمة وهي التجسيد الموضوعي للعقل المطلق(1)، إلا أن النموذج التعاقدي ظل الخلفية النظرية والمعيارية الوحيدة للتقليد الليبرالي. ولم تنجح النزعات الفردية المناهضة لفكرة (السيادة المطلقة) التي تقوم عليها نظريات العقد الاجتماعي من بلورة بديل عن هذا النموذج الذي أصبح الإطار المرجعي للهياكل الدستورية للديمقراطيات الليبرالية(2).
بيد أن هذا النموذج – الذي صمد أمام انتقادات فلاسفة القرن التاسع عشر ـ غدا عاجزاً عن توفير العدة النظرية الصلبة للديمقراطيات المعاصرة في مواجهة الفلسفات النفعية التي تدّعي التعبير عن القيم الليبرالية للمجتمعات الراهنة وفلسفات النسبية القيمية التي تأخذ شكل مقاربات متنوعة يجمعها النقد الجذري لتركة التنوير ومفاهيم وقيم الحداثة.
أما الفلسفات النفعية فتتشكل من التقليد الذي ظهر في السياق الأنغلوساكسوني في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وهيمن على الثقافة السياسية الأمريكية المشتركة. وينطلق هذا التقليد من فكرة محورية مفادها أن التمييز بين الفعل الخير والسيء يتحدد بحسب معيار الرفاهية أو المنفعة المترتبة عليه. وبالرجوع إلى أعمال أبرز ممثلي هذا الاتجاه كبنتام (1748- 1832م) وجون ستوارت ميل (1806- 1873م) يمكن تلخيص أسس الفلسفات النفعية في ثلاث محددات رئيسية هي: مبدأ الرفاهية، ومبدأ التقويم بالأثر الراجع، ومبدأ التكثيف الأقصى (للمنفعة) تتمحور حول تصور فردي للقيم ينظر للمعايير المشتركة كحصيلة للمنافع الفردية المسجلة(3).
أما التيار الناقد لقيم التنوير والحداثة فيتوزع في الساحة الأمريكية إلى اتجاهين متمايزين هما:
ـ تأثيرات مدرسة فرانكفورت التي عمدت إلى تقديم نقد جذري لمسار العقلنة في المجتمعات الليبرالية الصناعية الحديثة بصفته أفضى إلى الانتقال من هدف الهيمنة على الطبيعة إلى الهيمنة على الإنسان بحيث انفصمت العلاقة بين البعد المؤسسي التنظيمي للديمقراطيات المعاصرة والمنظور القيمي التحرري الذي تمتاح منه مقوماتها النظرية والإيديولوجية(4).
ـ اتجاه الفيلسوف الألماني ـ الأمريكي ليو شتراوس الذي وجه نقدا راديكاليا للحداثة السياسية القائمة على التصورات الوضعية والتاريخية بما تؤدي اليه من القول بنسبية القيم ومن إضعاف للجسم الاجتماعي والسياسي، داعياً للرجوع إلى الفلسفات القديمة (اليونانية والوسيطة) في تصورها للشأن العمومي كتطبيق لقيم الفضيلة المدنية(5).
في هذا السياق إذن بدت نظرية العدالة التوزيعية التي طرحها رولز في صيغتها الأولى عام (1971م(6) حدثاً كبيراً في تاريخ الفلسفة السياسية لعدة أسباب من بينها أنها أول نظرية في العصر الراهن تقدم بناء مفهوميا (قويا) لتأسيس مرجعية العدالة، تعيد المبحث الأخلاقي إلى الفلسفة الذي انسحب منه بأثر النقد النتشوي الراديكالي للتصورات الأخلاقية و إقصاء الملفوظات المعيارية من دائرة المعنى في الفلسفات التحليلية التي كانت مهيمنة في السياق الأمريكي.
والمعروف أن التقليد الفلسفي يتأرجح إجمالاً بين تصورين للمسألة الأخلاقية:
ـ التصور المعياري الذي يعود لفلسفة أرسطو، ويتحدد بحسب غائية السلوك من حيث كونه يضمن الخير والكمال.
ـ التصور الإجرائي الذي بلوره كانط، ويتحدد بحسب قابلية السلوك للتعميم والصياغة الكونية.
فالتصور الأول ينطلق من أن السلوك الأخلاقي لا يرمي إلى مجرد ضبط العلاقات الإنسانية حسب مدونة إجرائية تضمن لهم العدل والتكافؤ، بل يهدف إلى غاية أسمى هي تحقيق رغبة الإنسان الطبيعية في العيش السعيد والحياة الفاضلة. ومن هنا القول بتماهي الخير (أي الأخلاق) والقيمة الأسمى (أي السعادة).
فأرسطو يعرف الخير في كتابه (الأخلاق النيماخوية)(7) بأنه ما يبحث عنه البشر، وما يشكل غاية قصوى لأفعال الناس: (أنه ما تنزع إليه الأشياء أجمعها).
ولكن إذا كانت الخيرات متعددة، فما هو الخير الأسمى؟
يجيب أرسطو بالقول: إنه السعادة، لأنها الخير المطلق المطلوب لذاته، فهو الغاية القصوى للإنسان.
بيد أن السعادة ليست مفهوماً ذاتياً أو نفسياً، وليست رغبة أو منفعة، انها حسب تعريف أرسطو (تحقيق الفضيلة)، ليس بمعنى التزام قاعدة قانونية أو ضوابط إجرائية، بل الانسجام مع الطبيعة الإنسانية ذاتها، أي السعي لتحقيق السلوك الذي يضمن اكتمال وتحقق الإنسان.
وإذا كان للأخلاق مدونة سلوكية، إلا أنها ليست قانونية ضاغطة، فالأساس فيها هو المثل والغايات القصوى.
أما التصور الكانطي، فيستبدل (أخلاق السعادة) بأخلاق الواجب)، والتصور الغائي للسلوك الأخلاقي بالتصور الإجرائي له، وبذا يبلور الخلفية الفلسفية للتصورات القانونية الحديثة القائمة على مفهوم (استقلالية الذات) في مواجهة التصور الأنطولوجي للطبيعة الإنسانية (أي القول بطبيعة إنسانية مطلقة ومكتملة على السلوك الأخلاقي أن ينسجم معها.
ففي كتابه (أسس متيافزيقا الأخلاق)(8) يحدد الفعل الأخلاقي بأنه ما ينسجم مع (القانون الأخلاقي) أي (الواجب).
يعني ذلك أن مصدر الفعل الأخلاقي ليس مدى تلاؤمه مع غائياتنا أو سعادتنا ولا مصالحنا، بل مع المقوم الكوني لإنسانيتنا كما يترجم في واجبات شاملة تتخذ شكل قوانين ملزمة موضوعية وغير ذاتية.
إن أساسه هو (الأمر القطعي) الذي يصوغه في شكل قانون أعلى على النحو التالي: (على سلوكك أن يكون دوماً محدداً بطريقة تجعله قابلا إراديا أن يتحول إلى قانون طبيعي كلي).
فالنموذج المطروح هنا للقانون الأخلاقي هو القانون الموضوعي الذي يحكم الظواهر الطبيعية. فمعيار السلوك الأخلاقي ليس في مضمونه بل شكله الذي يجب أن يكون له خاصية الإلزام غير المشروط.
إنها أخلاق مبنية على العقل العملي الذي يتعلق بالفعل لا المعرفة ميدان العقل المجرد (ومن ثم تعطي الأولوية لمبدأ العدل(المساواة في الحقوق) على مبدأ الخير(مضمون العقل وطبيعته).
فبالنسبة لكانط، لا يمكن أن نبني الأخلاق على مفهوم (السعادة) باعتباره من الأفكار المجردة التي لا مضمون محدد لها، كما أنه يتماهى مع اللذة التي هي موضوع ذاتي ونفعي.
ولذا، فإن المبدأ المؤسس للأخلاق هو الإرادة الحرة التي تمنحنا الوعي بالواجب الأخلاقي الذي يحررنا من النوازع التجريبية النفعية، ويضمن لنا التصرف كأفراد مستقلين.
ومن المعروف أن كانط لا يميز بين المشكل الأخلاقي والمشكل التشريعي ـ السياسي، بل أنه يتناول الموضوع القانوني من منطلقات أخلاقية، باعتبار أن القانون هو تجسيد عملي للضوابط الأخلاقية، بقدر ما أن هذه الضوابط قوانين إجرائية وليست معايير قيمية مطلقة.
وهكذا تفضي التصورات الكانطية إلى نتيجتين هامتين، لهما أثر حاسم في الفكر القانوني والسياسي الحديث والمعاصر:
أولاهما: إناطة الفاعلية الأخلاقية بالقوانين، التي أصبحت لها استقلاليتها عن دائرة الحكم، ومن هنا فكرة استقلالية السلطة القضائية في جهاز الدولة الحديثة.
فالقوانين من هذا المنظور هي مدونات إجرائية تعبر عن الجانب القيمي المتعلق بالمجال العام، إنها أكثر من تشريعات، بل تتسع لتشمل جوانب مختلفة ومتنوعة من الحياة الأخلاقية للأفراد.
ثانيتهما: بناء الشرعية السياسية على المقوم الأخلاقي بمفهومه الحديث أي الحرية بصفتها إرادة ذاتية تنزع للكونية من خلال إقامة مؤسسات كلية.
إن هذا التصور الأخلاقي بالمفهوم الحديث (التعبير عن الحرية إجرائيا في قوانين كلية) هو الأساس النظري والمرجعي لنظريات العقد الاجتماعي (هوبز، لوك، روسو…). ومن الواضح أنه يرتكز على مصادرة تناسب أخلاق الواجب مع التشريعات المدنية، ويتأسس على مرجعية العقل بصفته إطار الكونية الإنسانية.
بيد أن هذا التصور الحديث للمسألة القانونية من منظور أخلاقية التميز والعقلنة (أي استقلالية الإنسان ورشده بإمتلاكه أداة التعقل واستخدامها المكتفي بذاته)، قد طرح إشكالات حادة في الفلسفة المعاصرة، نذكر من بينها ما بينه ليوشتراوس(9) من أن التصورات القانونية السياسية الحديثة التي أرست قطعية مع مفاهيم الفضيلة الأرسطية انتهت إلى التأرجح غير المحسوم بين نموذج اصطناعي لا معياري(القانون كمجرد إجراءات عملية لضبط الدولة والمجتمع بصفتها جهازاً له قواعد اشتغاله) ونموذج معياري مستمد من الإيديولوجيات التاريخانية والوضعية، أي منح هذه الإجراءات قيمة مطلقة أما لتماهيها مع ما تعبر عنه قوانين التاريخ وأما بمنحها قيمة القوانين الطبيعية كما يكشف عنها العلم التجريبي.
فالمشكل هنا هو تمويه مصدر القوانين بالعجز عن حسمه نظريا. فإذا كانت الفلسفات السياسية القديمة قد أرجعتها لقوة الفضيلة بمعناها الأنطولوجي (أي من حيث انسجامها مع نظام الوجود ذاته)، وكانت المنظومات الدينية قد أرجعتها لمصدر إلهي مقدّس، فإن الفكر القانوني الحديث ينيط بالدولة بصفتها التعبير الكلي عن المجموعة القومية حق إصدار القوانين المنظمة لشؤون المجتمع.
ولتبرير هذا التحويل يتم النظر للدولة من زاوية قانونية، بالنظر إليها من حيث هي مرجعية التأسيس ومصدر الشرعية بصفتها قائمة على عقد أخلاقي ذاتي يحقق إرادة جماعية مشتركة تتخذ شكل وثيقة قانونية تحكم علاقات الناس فيما بينهم وتحدد شكل السلطة التي تحكمهم.
إن هذا التصور يقوم إذن على تناقض خفي بين المنظور الاصطناعي النفعي للدولة (تحقيق الأمن المشترك للخروج من حالة الطبيعة التي هي حرب الكل ضد الكل) والمنظور القيمي (أي الدولة بصفتها تعبيرا عن المضمون الأخلاقي للإرادة المشتركة).
فما أراده جون رولز هو إعادة الاعتبار للتصورات الإجرائية الشمولية للقيم دون اللجوء إلى مقوماتها الميتافيزيقية. ولذا فإنه لا يقدم نظرية العدالة التوزيعية كفلسفة أخلاقية بل يعتبرها نظرية سياسية لا تطمح إلى بلورة أسس جوهرية للفعل الأخلاقي، وإنما تكتفي بالكشف عن المبادئ الناظمة للعدالة داخل مجتمع تعددي جيد التنظيم، تتصارع فيه وتتعايش مختلف تصورات الخير الجماعي(10).
ومع ذلك تتميز أطروحة رولز بكونها تريد الوصول إلى مبادئ كونية للعدالة، اعتبرها رولز في مقاربته الأولى منطلقات إنسانية عقلية قبل أن يقر في مراجعاته المتكررة للنظرية بأنها محدودة بسياق المجتمعات الليبرالية الديمقراطية وبنمط العقلانية الذي تقوم عليه.
ففي الكتاب الذي صدر عام 1971م يبين رولز بوضوح أن هدفه هو (تقديم تصور للعدالة يعمم ويرفع إلى أعلى مستوى من التجريد نظرية العقد الاجتماعي المعروفة جدًا، كما نجدها لدى لوك وروسو وغيرهم)(11). فالمقصود هنا هو البحث عن تأسيس أصلي لقيمٍ العدالة من خلال الرجوع لفكرة (الوضعية الأصلية) للمتعاقدين، تفاديا لتأثير المواقع والتصورات الاجتماعية على المعايير المؤسسة للحالة الترابطية القائمة. ويرى رولز أن ميزة النموذج التعاقدي تكمن في أنه يسمح بتصور مبادئ العدالة بصفتها (مبادئ من شأن البشر العاقلين أن يختاروها) كما يسمح في الآن نفسه (بشرح وتبرير تصورات العدالة)(12).
أما في مراجعته للنظرية التي تضمنها كتابه (العدالة بصفتها إنصافاً) الذي صدر عام 2001م فسيتحول الاهتمام من هذا الهدف التأسيسي القوي إلى وضع مجرد (تصور سياسي للعدالة) وليس مذهباً أخلاقيا شاملاً. فالغرض من هذا التصور هو حسم الإشكال العصي المطروح على كل المجتمعات الليبرالية التعددية الذي هو رسم الحد الفاصل بين الفردية الذرية المتولدة عن مبدأ الإرادة الذاتية الحرة والشمولية الاجماعية المشطة، التي تموه وتقصي الحقوق الفردية التي هي الحقوق القاعدية الأساسية للإنسان الحديث.
فالرجوع إلى النموذج التعاقدي في المراجعات الأخيرة للنظرية لا يراد منه استكمال أو تعميم المقاربة العقلانية الشاملة التي كانت مهيمنة على فلسفات روسو ولوك وهوبز، وإنما توظيف البراديغم البنائي في وضع أسس إجرائية لقيم الإنصاف الاجماعية الضابطة لمجتمع تعددي جيد التنظيم.
ففلاسفة العقد الاجتماعي الكلاسيكيين تصوروا العقد من منظور معياري، أي بصفته التجسيد العملي لقيم عقلية كونية تفرض نفسها على بشر متعايشين من حيث هم أحرار ومتساوون بالطبيعة. فحالة الطبيعة هنا ليست فرضية تاريخية وإنما حيلة نظرية تشكل منظور تقويمياً صلباً للنظم الاجتماعية القائمة لإدراك مدى انسجامها مع هذه المرجعية المتعالية. فالمقاربة التعاقدية لدى رولز لا تبحث في السمات المعيارية القصوى للنظام الجماعي وإنما تتحرى البحث في شروط وظروف شرعية المؤسسات القائمة ومبررات الخضوع الإرادي للأفراد الأحرار لها. إن العقد هنا لا يقوم على رؤية قيمية مشتركة، كما أنه لا يقوم على الإجماع النهائي المطلق، بل إن أساسه هو تنظيم وتسيير الرؤى المعيارية المتعددة من خلال الحوار المتواصل والإجماع التوفيقي(12).
يتعين التنبيه في هذا السياق إلى أن نظرية رولز تندرج في سياق التقليد الفكري السياسي الأمريكي الذي يركز على البعد التعاوني الترابطي للكيان السياسي في مقابل نظريات الهيمنة والصراع التي سادت طيلة نصف القرن الأخير في الفلسفة السياسية والدراسات الاجتماعية الأوروبية.
فرولز ينطلق في نظريته للعدالة من تعريف المجتمع بصفته (نسق التعاون الاجتماعي القائم على الإنصاف))fairness 13). ولفكرة التعاون خصائص ثلاثة أساسية هي: أنه نمطٌ من الترابط تحكمه قواعد وإجراءات دقيقة يقبلها الجميع، يضمن الإنصاف بين المتشاركين بما يقوم عليه من تكافؤ في الحقوق والفوائد، يتضمن فكرة الفائدة العقلانية التي تختلف عن المنافع الفردية الضيقة. ومن هنا يصبح هدف نظرية العدالة هو تحديد صيغ التعاون الاجتماعي الضامنة للإنصاف من خلال تعيين الحقوق والواجبات الأساسية التي تضعها المؤسسات السياسية والاجتماعية مع تحديد نمط وضوابط تقسيم المنافع المترتبة على التعاون الاجتماعي.
فالسؤال المطروح يغدو عندئذ: (ما هو التصور السياسي للعدالة الأكثر قبولاً لتحديد الصيغ المنصفة للتعاون بين مواطنين يعتبرون أحراراً ومتساوين، متعقلين وعقلانيين؟)(14).
للإجابة على هذا الإشكال يقدم رولز عدة نظريات محكمة تتلخص في المفاهيم الرئيسية التالية التي يحرص على توضيحها وشرحها في مختلف أعماله:
ـ فكرة (المجتمع جيد التنظيم) (well ـ ordered society): يعرّف رولز المجتمع جيد التنظيم بكونه المجتمع الذي تم تصوره لضمان خير أفراده، كما أنه يتميز بكونه محكوم بتصور عمومي للعدالة. ففي هذا المجتمع يحترم كل فرد نفس مبادئ العدالة التي يعرف أن كل فرد آخر يحترمها بالقدر نفسه، كما أن المؤسسات الاجتماعية القائمة تحترم هذه المبادئ وتجسدها(15).
ـ فكرة (البنية القاعدية) (basic structure): تعني هذه المقولة الطريقة التي توزع بها المؤسسات الاجتماعية الأساسية الحقوق والواجبات الرئيسية وتحدد توزيع المنافع المستمدة من التعاون الاجتماعي(16).
ـ فكرة (الوضعية الأصلية) (original position): ويعني بها حالة الجمود الأولى التي تضمن عدالة التوافقات الأساسية التي يمكن التوصل إليها لاحقاً. فيمكن تقويم مدى عقلانية وملاءمة نظرية ما للعدالة إذا كانت مبادؤها قد انتقاها أشخاص عقلانيون من بين مبادئ أخرى في وضعية أصلية(17).
ـ فكرة (حجاب الجهل) (veil of ignorance): ترتبط عضوياً بالمقولة السابقة، وتعني افتراض وضع المتعاقدين الأصليين خلف غطاء جهل، بحيث لا يعرفون كيف ستؤثر مختلف الإمكانات والاحتمالات على وضعياتهم الخاصة، ولذا فهم مرغمون على تقويم مبادئ العدالة على قاعدة الاعتبارات العامة وحدها(18).
ـ فكرة (الإجماع عن طريق التوفيق) (overlapping consensus) التي يراد بها إضفاء سمة الواقعية على مقولة المجتمع جيد التنظيم، مراعاة للظرفيات التاريخية والاجتماعية للمجتمعات الديمقراطية القائمة على التعددية المتعقلة. فالإجماع الذي يحصل في مثل هذه المجتمعات التي يختلف فيها الناس من حيث الانتماءات والرؤى العقدية والقيمية هو إجماع ناتج عن النقاش والتحاور الذي يفضي إلى نقاط اجماعية تتجاوز تضارب المواقف المعيارية الذي هو الميزة الغالبة على السياقات الديمقراطية(19).
من خلال هذه الأفكار الخمسة يصل رولز إلى صياغة المبدئين الرئيسيين للعدالة، اللذين هم زبدة نظريته كلها، وهما:
المبدأ الأول: (يجب أن يتمتع كل شخص بحق متساوٍ لغيره ضمن أوسع نسقٍ من الحريات القاعدية الأساسية).
المبدأ الثاني: (يجب أن تنظم أشكال التفاوت الاجتماعي والاقتصادي بطريقة تضمن في آن واحد: أن نتوقع عقلياً أن تكون في مصلحة كل أحد، وأن تكون متعلقة بمواقع ووظائف مفتوحة للجميع)(20).
ولقد أعاد رولز صياغة المبدئين في مراجعته اللاحقة لنظريته بحيث أصبحا على الشكل التالي:
المبدأ الأول: (كل شخص له نفس الأهلية المطلقة التي لغيره ضمن منظومة مناسبة تماماً من الحريات القاعدة المتساوية).
المبدأ الثاني: (يجب أن تستجيب أشكال التفاوت الاقتصادي والاجتماعي لشرطين هما: يجب في المنطلق أن ترتبط بوظائف ومواقع مفتوحة للجميع ضمن ظروف عدالة متكافئة الحظوظ، ثم يجب أن تكفل أكبر قدر من المنفعة لأعضاء المجتمع الأكثر حرماناً)(21).
ويطلق رولز على المبدأ الأول (مبدأ الحرية) وعلى الثاني (مبدأ الاختلاف)، ويؤكد على تراتب الأولويات بين المبدئين: فلأولهما الأولوية على الثاني، كما أن التكافؤ في الفرص داخل المبدأ الثاني لها الأولوية على معيار التفاوت الشرعي.
وقد أصبح من الواضح في المراجعات الأخيرة للمبدأين أن المبدأ الأول يتعلق بالمسائل الدستورية الأساسية كحرية التعبير والتفكير والتنظيم، في حين يتعلق المبدأ الثاني بالإنصاف في الفرص وتسيير أشكال التفاوت التي تدخل في نطاق مسائل العدالة التوزيعية (distributive justice) التي تنظمها التشريعات والنظم القانونية في مقابل المسائل الدستورية الرئيسية التي تنتج عن اللحظة التعاقدية التأسيسية.
إن هذا التحول يعكس انتقالاً متدرجاً من نظرية أخلاقية جوهرية إلى الاكتفاء بضبط القيم الإجرائية التي تقوم عليها الليبرالية السياسية في المجتمعات الديمقراطية انطلاقاً من مبدأ (أولوية العدل على الخير)، معلناً بجلاء أن (نظرية العدالة كإنصاف هي شكل من الليبرالية)(22). بيد أنه يريد أن يتفادى فخ الفردية النسبية التي تنظر إلى التصورات المعيارية للشأن الجماعي كخيارات ذاتية غير قابلة للتعميم. فالإقرار بأولوية مبدأ العدالة يقتضي ضمناً وضع حدود تضبط شروط قبول صيغ الحياة المعروضة، فللمؤسسات العادلة قيمها السياسية الملائمة لها التي هي أساس ولاء المواطنين لها. ومن هنا يصل إلى القول (إن العدالة والخير متكاملان، وذلك ما لا تنفيه أولوية العدل. فهذه الأولوية تعني فقط أنه في الوقت الذي يقتضي قبول تصور ما سياسي للعدالة احترام صيغ الحياة التي يمكن للمواطنين الولاء لها، فإن مفاهيم الخير التي تستند إليها هذه المفاهيم يجب أن تحترم الحدود التي وضعتها بنفسها أي الفضاء المسموح به)(23).
فرولز ـ وإن كان يعتمد التصورات الإجرائية المجسدة لمبدأ الحياد الليبرالي إزاء شتى تصورات الخير الجماعي، إلا أنه يقر أن تعليق الحكم المعياري بمعنى الانفصال عن كل منظور قيمي هدف مستحيل، لأن كل تبرير لا يتم إلا بالاستناد لأفق معياري. فنظرية العدالة كإنصاف ليست إجرائية في المطلق، لأنها تحمل تصورات سياسية للفرد والمجتمع. فما تبحث عنه هو أن تكون (قاعدة عمومية للتبرير) صالحة للبنية القاعدية للنظام الدستوري انطلاقا من جملة حدوس أساسية متضمنة في الثقافة السياسية العمومية. فسمتها الإجرائية الشاملة تكمن في كونها تتلمس فضاء محايداً يحترم التعددية فيما وراء اختلاف المذاهب التفسيرية، و(هذا الفضاء المشترك المحايد هو التصور السياسي للعدالة بصفته مركز إجماع توفيقي)(24).
ومن هنا يتضح الاتجاه إلى ضبط نمط (العقل العمومي) (public reason) للمجتمعات الليبرالية الذي هو الفضاء القيمي لنظرية العدالة. ويعرّف رولز العقل العمومي بأنه (عقل المواطنين المتساوين الذين يمارسون بصفتهم جسماً جماعياً السلطة السياسية والإكراهية القصوى بعضهم على بعض عن طريق إصدارهم للقوانين ومراجعتهم لدستورهم)(24).
فالعقل العمومي هو دائرة الحوار الحر داخل فضاء المواطنة المشترك في مقابل (العقل غير العمومي) الذي يتشكل في المؤسسات الدينية والجامعية ولدى الروابط العلمية والمنتديات الخاصة، وهو مقبول في حدود حرية الوعي والتعبير، لكنه لا يمكن أن يعوض العقل العمومي أو يقيده لأنه مجال الثقافة والقيم المشتركة للأمة.
نلاحظ هنا أن إشكال العلاقة بين التأسيس الإجرائي للعدالة الذي يكرسه مبدأ أولوية العدل (الإنصاف) على الخير والمنظور القيمي للثقافة السياسية الليبرالية بصفتها التعبير عن العقل العمومي هو أساس الجدل الواسع الذي خلفته نظرية رولز في الفكر السياسي المعاصر. وسنقف باقتضاب في هذا المقام عند أربع قراءات رئيسية لنظرية رولز تنطلق من خلفيات متمايزة هي: مقاربات الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور والفيلسوف الألماني يورغن هابرماس والفيلسوف الفرنسي بول ريكور، والفيلسوف الإيطالي أنتونيو نغري.
فأول الفلاسفة المذكورين يمثل المدرسة المجموعاتية (communautarian) التي كان حوار رولز معها حاسماً في بلورة ومراجعة نظريته، أما هابرماس وريكور فيشتركان مع رولز في المقاربة الإجرائية لكنهما يخالفانه من منطلقين مختلفين نموذجه التعاقدي، في حين تنطلق قراءة نغري من خلفيات ماركسية جديدة رافضة للتصورات الليبرالية التي يدافع عنها هابرماس بوسائل نظرية رصينة.
أما النقد المجموعاتي فينطلق من نقد التصور الفردي للذات الحرة بإخراجها من سياقها الانتمائي وتقليدها الجمعي كما هو واضح في نظرية رولز التي تقوم على انفصام خطير بين الإنسان والمواطن. فالفرد من حيث هو الذات التعاقدية ليس ذرة معزولة، بل يحمل بالضرورة تصوراً مسبقاً حول الخير الجمعي، ولا معنى لحياد الدولة إزاء المشاريع المعيارية الكلية. ومن هنا الرجوع للتصور الأرسطي الذي يعطي الأولوية للخير (أي الفضيلة العمومية) على العدل بمفهومه الإجرائي.
فتايلور يرى أن رولز لم ينجح في تجاوز مأزق النسبية العدمية على الرغم من دفاعه فكرة المضمون المعياري الملازم لنظرية العدالة بصفتها تعبيراً عن العقل العمومي للمجتمعات الليبرالية التعددية. ومصدر هذا العجز يكمن في كونه لم يتخلص من مبدأ (الذاتية الأخلاقية) المهيمن على الثقافة الغربية الحديثة. ويقوم هذا المبدأ على القول بأن المواقف الأخلاقية لا تستند إلى أي أساس مرجعي سواء كان العقل أو الطبيعة، ومن ثم فإن كل واحد منا يتبناها بحسب قناعاته الذاتية. ومن هنا (يفقد العقل دور الحكم في الحوارات الأخلاقية). وبطبيعة الأمر يمكنك تنبيه محاورك إلى بعض النتائج التي فاتته، ولكن ليس لك قدرة على إقناعه في حالة تشبثه بموقفه الأصلي(25).
ويرجع تايلور خلفية التصور الليبرالي لأولوية الحقوق الفردية على الانتماءات الجماعية (كما هو واضح لدى رولز) إلى كانط الذي عرف الكرامة الإنسانية باستقلالية الإنسان، أي قدرة كل شخص على تحديد تصوره الخاص للحياة المثالية. فالخطر الذي يفضي إليه هذا الرأي هو قيام معادلة ليبرالية تتأسس على الحقوق الفردية وترفض الاختلاف الثقافي؛ (لأنها ترتكز على تطبيق نمطي للمعايير التي تحدد هذه الحقوق دون استثناء، ولأنها جد حذرة من المصائر الجماعية). فهي عاجزة عن قبول أنماط الحياة الثقافية للمجموعات التي هي أساس بقائها، مما يعني اعتبار الحقوق الجماعية بدل الاكتفاء بالحقوق الذاتية الفردية(26).
أما هابرماس فيقرّ في البداية أن (خصومته) مع رولز هي مجرد خلاف عائلي، فهو يوافقه في منطلقه الذي هو (أخلاقية الاستقلال والرشد) الكانطية القائمة على الاستغلال العمومي للعقل. بيد أنه يتعرض بالنقد لمفهوم (الوضعية الأصلية) الذي يراه عاجزاً عن تفسير وضمان الموقف غير المتحيز الذي ينبع منه مبدأ العدالة من حيث طابعهما الإجرائي، كما يرى هابرماس أن رولز لم يكن واضحاً في التمييز بين (القضايا التبريرية) و(القضايا المقبولة) بحيث يبدو أنه أراد الحصول على (الحياد الإيديولوجي) لتصوره للعدالة فانتهى إلى التضحية بالطموح (للصلوحية المعرفية). ذلك أن الفهم الأداتي المحض للنظرية ممتنع، لأن الإجماع التوفيقي الذي يتحدث عنه رولز يتطلب مسبقاً جهداً اقناعياً ودفاعاً عن خيار معياري. فالإجماع لا يمكن أن يحصل إلا على أساس علاقة معرفية بين صلاحية النظرية والبرهان على حيادها الإيديولوجي كما يتجلى من النقاشات العمومية.
فالإستراتيجية النظرية التي اعتمدها رولز أدت به إلى إخضاع مبدأ الشرعية الديمقراطية للمبادئ الأساسية لليبرالية. ومن هنا أخفق في مشروعه الأصلي الذي هو التوفيق بين المفهوم الحديث للحرية (حرية الوعي والتعبير والملكية…) والمفهوم القديم لها(حقوق المشاركة والانتماء). فالمواطنون ليس لهم دور محوري في التأسيس الديمقراطي باعتبار أن المبادئ الرئيسية الضابطة للحريات العامة وللتعددية تتشكل في لحظة الوضعية الأصلية. ومن هنا فإن (فعل إنشاء دولة القانون الديمقراطية ليس بحاجة إلى أن يستعاد في الظروف الدستورية لمجتمع عادل تشكل من قبل، كما أنه ليس من الضروري إعطاء شكل دائم لمسار إنجاز الحقوق). وهكذا يؤول هذا التصور إلى إضعاف لمقاربة الديمقراطية التي تعني مساراً دائماً ومفتوحاً للحصول على الحقوق والحفاظ عليها(27).
أما بول ريكور فينطلق من التساؤل حول طبيعة العلاقة بين التصور الأدبي deontologic (غير الغائي) للعدالة الذي يعود للتقليد الكانطي (فكرة الاستقلالية والتميز) والنموذج التعاقدي الذي يخرج مفهوم العدالة من البُعد الأخلاقي الفردي إلى البعد المؤسسي. فما هي الصلة بين (المنظور الأدبي) (deontologic) و(الإجراء التعاقدي)؟
يقدم ريكور فرضية مفادها أن هذه العلاقة ليست عرضية، ما دامت وظيفة الإجراء التعاقدي تكمن في ضمان أولوية العدل على الخير باستبدال الالتزام إزاء الخير المشترك بالمسار التعاقدي نفسه. فمبادئ العدالة نفسها تنحدر من هذا الإجراء التعاقدي لأن العقد يأخذ موقع الاستقلالية والتميز في مجال الأخلاق الفردية. فالإشكال كله يتعلق بمدى قدرة تعويض المقاربة الإجرائية التعاقدية للتصورات المعيارية القبلية للخير الجماعي.
فإذا كان رولز يضع (الإنصاف) (fairness) في مقام متقدم على العدالة، فذلك لأن الإنصاف هو السمة المميزة الوضعية للأصلية للعقد التي يتعين أن تتولد منها عدالة المؤسسات القاعدية. ومن هنا يمكن القول أن رولز يحمل خرافة الوضعية الأصلية كل الثقل النظري اللاحق لنظرية العدالة.
يرى ريكور أن رولز أراد بهذه الحيلة النظرية تخليص العدل من وصاية الخير من خلال مقاربته الإجرائية، إلا أن إشكالات ثلاثة تظل مطروحة:
أولاً: ما الذي يضمن حالة الإنصاف في المرحلة التداولية التي يصدر عنها الاتفاق المتعلق بالترتيب العادل للمؤسسات؟
ثانياً: ما هي المبادئ التي سيتم اختيارها في هذه الوضعية التداولية الوهمية؟
ثالثاً: ما هو البرهان الذي يمكن أن يقنع الأطراف المتداولة بالإجماع على اختيار مبادئ العدالة الرولزية بدل صيغة ما من النفعية على سبيل المثال؟
فبخصوص السؤال الأول، ينبه ريكور إلى العوائق العديدة التي تعوق قيام حالة الإنصاف المطلوبة لتحديد مبادئ العدالة الضابطة للعقد الاجتماعي، كمعرفة مختلف الأطراف للنفسية العامة للبشر وتحديد الخيرات الاجتماعية الأولية التي يبحث عنها الإنسان العاقل، والمعرفة البرهانية الكافية لمختلف تصورات العدالة، والتساوي في كمية المعلومات..مما ينم عن العجز عن ضبط المسطرة الإجرائية الموضوعية للوصول إلى مبادئ العدل في وضعية إنصاف أصلية.
وبخصوص الإشكال الثاني، يرى ريكور أن مبدأي العدالة بصفتهما مبدأين توزيعيين (توزيع الحقوق والواجبات والمنافع..) لا يتعرضان لفكرة تعددية الخيرات وإنما يستبدلانها بقاعد التقسيم. ولكن التقسيم في مجتمع ينظر إليه كنسق توزيعي يطرح إشكالات عويصة، إذ ثمة طرق عديدة متاحة لتقسيم المكاسب والخسائر باعتبار الطابع التوافقي ـ الصدامي الدائم للمجتمع. فرولز كغيره من فلاسفة الأخلاق اعترضته إشكالية العلاقة بين العدل والمساواة، فاختزلها في تحديد العدالة بطريقة تضمن الحد الأقصى الممكن من أشكال اللامساواة الحتمية، فانتهى من خلال نموذجه التعاقدي (المساواة بين الشركاء في الوضعية الأصلية) إلى إضفاء سمة الإنصاف مسبقا على أشكال التفاوت التي يقرها العقد مادام حصل الاحتياط للمساواة في وضعيات الانطلاق الأولى(المساواة في الحقوق وتكافؤ الفرص).
وبخصوص الإشكال الثالث، يرى ريكور أن رولز ينطلق في تبريره لاختيار المتعاقدين لمبدئي العدالة إلى نظرية (القرار في سياق احتمالي)، مما يفتح الباب أمام إمكانات متباينة ومتعددة. بيد أن المتعاقدين يرتبطون فيما بينهم بميثاق حددت بنوده علناً وبإجماع. ومن هنا إذا تصادم تصوران مختلفان للعدالة وكان أحد التصوريْن يسمح بوجود وضعية يمكن أن يعترض عليها أحدهم في حين يقصي التصور الآخر هذا الاحتمال، فإن هذا التصور الأخير ستكون له الغلبة لا محالة. وعندئذ يغدو السؤال المطروح هو: إلى أي حد يمكن لميثاق لا تاريخي أن يلزم مجتمعاً تاريخيا؟
وهكذا يخلص ريكور من اعتراضاته على رولز إلى أن نظريته للعدالة التي تقوم على مقاربة أدبية إجرائية تختزن تصوراً قبلياً لمضمون العدالة هو الذي يسمح بتحديد مبدئي العدالة وتفسيرهما قبل أن نبرهن (إن كان الأمر ممكنا) على أنهما المعياران اللذان يتوصل إليهما في لحظة الوضعية الأصلية. فالوضعية الأصلية نفسها الضامنة للإنصاف تقوم على تصور ضمني ومفهوم فلسفي معين للإنصاف سيكون حاسماً في بلورة مبدئي العدالة. ومن هنا حدود أي نظرية إجرائية تدّعي إمكانية الاستغناء عن تصور معياري للخير الجماعي(28).
أما أنطونيو نغري فيرى أن نظرية العدالة لدى رولز تنطلق من (خلفية صورية قوية) تخفي حنيناً للتأسيسات الأنطولوجية القصوى. صحيح أنه يريد أن يتخلص من المقاربات الوظيفية السائدة للعدالة القائمة على نمط العقلانية الأداتية للحداثة الرأسمالية دون النكوص إلى نمط جديد من نظريات الحق الطبيعي (نوزيك مثلاً) أو إلى النزعة النسبية الاجماعية (هابرماس). ومن هنا عودته للصورية الترانساندنتالية على الطريقة الكانطية أي فكرة الاستقلالية والتميز ضمن منظور تعاقدي يكفل حرية الأفراد ومساواتهم.
ويرى نغري أن فكر رولز يندرج في سياق النظريات (الليبرالية التقدمية) أي (ديمقراطيات التنمية) بالمفهوم الأنغلوساكسوني الذي يعني الصنف الديمقراطي الذي لا تكون فيه المشاركة في الحياة السياسية ضرورية لحماية الحريات الفردية فحسب وإنما أيضاً لأجل إنشاء مواطنة مبنية على الاتصال والمشاركة والتعاضد. إلا أن نسقه البرهاني يعاني من اختلالات خطيرة تنبع من مفهوم (الوضعية الأصلية) الذي يتسم بالغموض وعدم الدقة. فرولز لا يحدد طبيعة (الخيرات الأولية) التي تتمحور حولها هذه الوضعية، مما يجعل المسار الغائي المفضي إلى مبدئي العدالة عرضيًا واحتماليا. إنه يفتح الطريق نظرياً لكل المقاربات بإقصاء كل التحديدات الملزمة المتعينة تاريخيا، إلا أن نزعته الصورية لا يمكن أن تنسجم إلا مع سياقات تجذرت فيها الليبرالية القانونية من قبل واستقرت فيها، وإلا كانت نظريته مجرد دفاع عن الوضع القائم(29).
لم نتعرض في هذا البحث لقراءات أخرى هامة لنظرية العدالة لدى رولز، من بينها قراءة الفيلسوف والاقتصادي الهندي أمارتيا سن الذي وجّه نقداً رصيناً لأطروحة رولز من منطلق نظريته حول (المؤهلات) (capacities)(30)، ونقد الفيلسوف الليبرالي الأمريكي روبير نوزيك(31)، وقراءات بقية الفلاسفة المجموعاتيين وبصفة خاصة مايكل صاندل الذي خصص كتاباً متميزاً في نقد رولز وعرض نظريات العدالة(32)، ومايكل والزر أهم فيلسوف للعدالة بعد رولز الذي اشتهر بكتابه الهام (دوائر العدالة)(33)، وقد اكتفينا بعرض قراءة زميلهما تايلور.
وحسبنا في هذا الحيز أننا أشرنا إلى الأسس الرئيسة لنظرية رولز، ونبهنا إلى جانب من الحوارات التي ولدتها في الفكر السياسي المعاصر.
*****************
الحواشي
*) باحث وأكاديمي من موريتانيا.
1- Hegel: principes de la philosophie de droit vrin 1989
2- من أهم هذه المحاولات مقاربة الكاتب والسياسي الفرنسي بنجامين كوستان(1767- 183) الرافضة للنموذج التعاقدي من منطلقات فردية راجع له:
B.Constant: la liberté chez les modernes in écrits politiques Gallimard 1997
3- راجع مثلاً كتاب ستوارت ميل المشهور
John Stuart Mill: utilitarism filiquarian publishing 2007
4- لا شك أن أهم فلاسفة مدرسة فرانكفورت تأثيراً في الساحة الأمريكية هو هربرت ماركوز (1898- 1979) الذي أقام طويلاً في الولايات المتحدة ودرس في جامعاتها. راجع له
H.Marcuse: one ـ dimensional man ark paperback London 1986
5- راجع مثلاً مقالة شتراوس المشهورة (موجات الحداثة الثلاث) في
”the three waves of modernity” in political philosophy: six essays by leo strauss hilail gildin 1975
6- صدرت الأطروحة الأولى بعنوان:
J.Rawls: a theory of justice
و سنرجع في هذا البحث للترجمة الفرنسية:
Théorie de la justice Seuil ed 1997
7- Aristote: Ethique a Nicomaque vrin 1990
8- kant: fondements de la métaphysique
des moeurs delagrave 1989
9- راجع نقده للتصورات التاريخانية في
Leo strauss: la philosophie politique et l histoire biblio essai 2008 pp39- 71
10- Rawls: “la théorie de la justice comme équité: une théorie politique et non pas métaphysique” in justice et démocratie seuil 1993 pp 205- 241
11- John rawls théorie de la justice p 37
12- ibid pp42- 43
12- راجع في الموضوع:
Veronique Munoz ـ Darde: “la justice comme équité dansl’ oeuvre de John Rawls”
In la justice s\d Patrik Wolling vrin 2007 pp142- 148
Mounir Kchaou: “le contractualisme contemporain et la construction du lien social” in études rawlsiennes: contrat et justice pp 15- 74.
13- Rawls: la justice comme équité la découverte 2003 p 22.
Rawls: libéralisme politique puf 1995 p40.
14- Rawls: la justice comme équité p 25.
15 – John rawls: théorie de la justice P 495- 496.
16- ibid p33.
17- ibid p44.
18- ibid p 168.
19- Rawls: la justice comme équité pp 56- 57.
20- John rawls: théorie de la justice P91.
21- Rawls: la justice comme équité PP 69- 70
22- Rawls: justice et démocratie p 287
23- ibid p288
24- ibid p 301
24- Rawls: liberalisme politique p 261
25- Charles Taylor: le malaise de la modernité cerf 1994 p26
26- Taylor: muliticulturalisme: difference et démocratie aubier 1994 p 83
راجع حول التصورات المجموعاتية في علاقتها بنظرية رولز
كتاب الفيلسوف الكندي ويل كيمليكا الهام:
Will Kymlicka: les théories de la justice.une introduction la découverte 2003 pp217- 253
27- Jurgen Habermas: “la réconciliation grâce à l’usage public de la raison. remarques sur le libéralisme politique de john rawls”
In Habermas \Rawls: débat sur la justice politique cerf 1997 pp 9- 48
راجع رد رولز على هابرماس في الكتاب نفسه(ص 49- 142)
28- Paul Ricoeur: John Rawls: de l’ autonomie morale a la fiction du contrat social
In le juste ed esprit 1995 pp 196- 215
29- Antonio negri: le pouvoir constituent: essai sur les alternatives de la modernité puf 1997 p9
راجع أيضا بحثه الهام:
Negri: “Rawls: un formalisme fort dans la pensee molle”
http: //multitudes.samizdat.net/Rawls
30- Amartya Sen: répenser l’ inegalité seuil 2000 pp114- 116
31- Robert Nozick: Anarchie، Etat et Utopie puf 2006
32- Michael Sandel: Le libéralisme et les limites de la justice seuil 1999
33- Michael Walzer: les sphères de la justice seuil 1997

المصدر: http://www.hekmah.org/portal/
Top