كيف تؤثر الأحداث المهمة في حياتنا على مشاعرنا لفترة طويلة؟
October 12, 2020
من المجتمع
لا تنشأ التجارب النفسية من فراغ، فعلى سبيل المثال، لنفترض أنك تعرضت لصدمة نفسية لأسباب لها علاقة بوباء أدت إلى تدمير حياتك. لا شك أنك ستكون مشتت الذهن منفطر القلب. لكن نفترض أنك بعد ذلك بفترة قصيرة قابلت حب حياتك أو عثرت على الوظيفة التي تحلم بها، أو انتقلت إلى المنزل المثالي، فعندئذ ستشعر بالحزن الشديد والسعادة الغامرة في آن واحد.
كل حدث من هذه الأحداث يترك أثرا في نفوسنا، وتتداخل هذه الآثار لتشكل مجتمعة تجربة نفسية، لا يمكن تفسيرها بالنظر إلى حدث واحد من هذه الأحداث. لكن حتى الآن، لا تزال الأبحاث عن الآثار النفسية للأحداث الجسيمة، تركز على آثار الأحداث المنفردة، مثل فقدان الوظيفة، الذي نال نصيبا وافرا من الأبحاث التي تناولت تفاصيل تأثير البطالة على الحالة النفسية.
لكن هذه الدراسات لا تأخذ في الحسبان تأثير الأحداث الفارقة الأخرى التي قد تقع بالتزامن مع غيرها.
ولسبر أغوار التأثير النفسي الشامل للأحداث المتزامنة، أجرى نيك غلوزيير، أستاذ علم النفس والطب النفسي بجامعة سيدني، دراسة عن الصحة النفسية والرضا عن الحياة شملت 14,000 مشارك على مدى 16 عاما، واجه خلالها المشاركون 18 حدثا من الأحداث التي قد تغير مجرى الحياة، كفقدان شخص عزيز أو ولادة أحد أفراد الأسرة أو وفاة آخر أو الانتقال إلى وظيفة جديدة أو جرائم أو مشاكل صحية وتقلبات مالية.وركز غلوزيير أبحاثة في أستراليا، حيث أُجريت عدة أبحاث واستطلاعات رأي مطولة، منها استطلاع سنوي ممتاز للرأي يستهدف الأسر من ذوي الأصول العرقية المختلطة في أستراليا.
ويقول غلوزيير: "إن حياتنا حافلة بالأحداث المثيرة والمتنوعة، وبعض هذه الأحداث مفجعة. وقد حاولنا في هذا البحث تحليل بعض التشابك بين الأحداث". إذ تكشف دراسته عن جوانب محيرة من تأثير الأحداث المتداخلة والمتشابكة في حياتنا على صحتنا النفسية، وتوفر أدلة قد تساعدنا في الاستعداد لأمور قد تطرأ لاحقا، واستكشاف المشاعر التي ستنتابنا حيالها.
جانب مشرق وجانب مظلم
لنبدأ بالجانب المظلم من نتائج الدراسة. تخلف مصائب الموت والطلاق والخسارة المالية الفادحة، في حياة أي شخص أسترالي، أعمق الندوب في النفس، وتبين أن الألم النفسي لهذه الأحداث السلبية يدوم أطول من السعادة التي تجلبها الأحداث الإيجابية.
إذ ذكر المشاركون أن التعافي من الخسارة المالية الفادحة أو الأزمات الصحية الشديدة يستغرق نحو أربع سنوات في المتوسط، بينما يستغرق التعافي من الطلاق ثلاث سنوات. (وعرّف الباحثون التعافي بأنه الوقت الذي يحتاجه المرء ليسترد مستويات السعادة السابقة لوقوع الحدث).الزواج وإنجاب الأطفال والمكاسب المالية تمنحنا أكبر قدر من السعادة، لكننا في الغالب، ما نلبث أن نعود إلى نفس المستوى من السعادة والرضا الذي كنا عليه قبل حدوثها
ويستغرق التعافي من فقدان الابن أو الزوج أو الزوجة، والذي يعد واحدا من أعظم المصائب، أربع سنوات، لكن لحسن الحظ، أنه نادر الحدوث.
وينبه ناثان كيتلويل، الزميل الباحث بجامعة سيدني للتكنولوجيا، إلى أن سنوات التعافي احتسبت على أساس متوسط السنوات التي ذكرها المشاركون، وقد يحتاج البعض لسنوات أطول لنفض غبار الحزن واستئناف حياته السابقة.
ويقول كيتلويل إن "هذه الإحصاءات قد لا تكشف عن جميع الآثار التي يخلفها الحدث في النفس، فمن الواضح أن حدثا بهذا الحجم قد يصبح جزءا منك".
وتشير الدراسة إلى أن التبعات النفسية للابتعاد عن شيء مخيب للآمال، كقرار الانفصال عن الزوج على سبيل المثال، ستكون جسيمة وقد يستحسن أن تتفاداها، ما لم يصبح الأمر لا مفر منه. وينصح كيتلويل بمعالجة المشاكل قبل تفاقمها، مثل تفادي المشاكل الصحية بالتمارين الرياضية والعناية بالصحة، وتجنب فقدان الوظيفة بالتدريب أو الدراسة والحفاظ على السعادة الزوجية باللجوء للمستشارين الأسريين والحرص على تبادل مشاعر الود والحنان بين أفراد الأسرة.
أما عن الجانب المشرق من نتائج الدراسة، فإن هذه الأحداث الكئيبة لا تتكرر كثيرا، باستثناء الأزمات الصحية لشخص عزيز، التي تكررت في المتوسط كل أربع سنوات ونصف، والأهم من ذلك، أن الأحداث السلبية لا تحدث كلها في الغالب في آن واحد. فليس من المرجح أن يفقد الشخص وظيفته وفي الوقت نفسه يواجه كارثة طبيعية أو يمر بتجربة طلاق.
ويتعافى الناس بقوة عادة بعد الأزمات. يقول غلوزيير: "إن معظم الناس يتحسنون بعد الأزمات. فعلى الرغم من أن الناس ينزعون للاعتقاد أن جميع الأحداث المؤسفة تتطلب علاجا نفسيا أو استشارات أو الفضفضة مع شخص للتنفيس عن المشاعر، فإن الحقيقية هي أن معظم الناس يتجاوزون الأزمات دون مساعدة. وقد يكون من الأفضل أن نركز جهودنا على الأشخاص الذين يعجزون عن تجاوزها".
وربما ينطبق هذا على الصدمات النفسية الناتجة عن الوباء، ويقول كيتلويل: "إن الناس بشكل عام قادرون على التصدي للأزمات. وشيئا فشيئا سنشعر بالتحسن ونتأقلم مع الوضع الجديد".
السعادة بين فترات الصعود والهبوط
صف مشاعرك على مدى العقد الماضي، هل ترى أنها لم تطرأ عليها تغيرات ملحوظة؟ إذا أجبت بنعم، فأنت محق.فقدان الأعزاء والطلاق والخسائر المالية الفادحة تعد من الفواجع الأعمق تأثيرا في النفس، ويستغرق التعافي من كل منها بضع سنوات
ويقول غلوزيير: "إن مستويات السعادة والرضا لا تتغير كثيرا على مدار الحياة. فإن الغالبية العظمى من الناس يستعيدون مستويات السعادة الثابتة بعد فترة من الوقت، وعادة تكون هذه الفترات قصيرة. لكن بعض الناس تعساء بطبيعتهم، وبعضهم يواجه مصاعب الحياة بصدر رحب، مهما اشتدت عليهم المحن". وهناك مصطلح يعكس قدرة الناس على استعادة نفس المستويات الثابتة من السعادة والرضا التي كانوا عليها قبل وقوع الأزمات أو الأحداث الإيجابية وهو "التكيف مع المتعة".
وتشير البيانات إلى أن أعظم مسببات السعادة هو الزواج والولادة والمكاسب المالية، لكن هذه الدفقات من السعادة سريعة الزوال، فإن بهجة الزواج تدوم لعام على الأكثر، رغم أنها تحسن مستوى الرضا عن الحياة لثلاث سنوات.
وقد تتهلل أسارير وجهك فرحا بعد التقاعد أو الحمل أو الترقي لبضعة أشهر، لكن سرعان ما ستعود إلى مستويات السعادة التي كنت عليها قبل سماع النبأ. وقد تشعر بالسعادة أيضا من تأثير الاستعداد للحدث المبهج.
وعلى غرار السعادة، فإن فترات الحزن والضيق مؤقتة. ويقول غلوزيير: "إن الكثير من الأمور التي نشتكي يوميا من أنها مضنية ومجهدة نفسيا، قد تنهكنا نفسيا بالفعل لكن لفترات يسيرة للغاية، ولن تترك أثرا يذكر على المدى الطويل".
إذ ذكر المشاركون في الدراسة على سبيل المثال أنهم يتركون وظائفهم ويتقلدون وظائف جديدة أو ينتقلون إلى منازل جديدة كل أربع سنوات ونصف. وربما تكابد عناء شديدا وإرهاقا نفسيا عند الانتقال لمنزل جديد لمدة ثلاثة أسابيع، لكنك لن تتذكر منه شيئا بعد عشر سنوات.
والعجيب أن التغيرات في بيئات العمل لا تؤثر كثيرا في مستوى السعادة والرضا، ويقول كيتلويل: "كان هذا الأمر مدهشا، فرغم الجهد والضغوط النفسية والقلق الذي يعاني منه الناس في حياتهم المهنية، فإنهم عندما يفقدون وظائفهم يجدون وظيفة غيرها في فترة وجيزة".
لا تنشغل بالمستقبل على حساب الحاضر
لعل أهم ما نستخلصه من هذه الدراسة هو أنه لا جدوى من ملاحقة السعادة. فقد تشعر بالرضا عن حياتك بعد الزواج أو تحقيق مكاسب مالية أو التقاعد أو إنجاب طفل لفترة، لكن لا شيء على الإطلاق سيجعلك سعيدا على المدى الطويل.
وربما من الأفضل أن تستمتع بالأحداث المبهجة متى تطرأ، وابحث عن القيم التي تجد صدى في نفسك.
وكتب الباحثون في نهاية الدراسة: "اتضح أن الأشخاص الذين يأملون أن تجلب لهم الأحداث الإيجابية في حياتهم السعادة التي ينشدونها، سيكتشفون أنهم يطاردون سرابا".
بي بي سي