"لا يتكلّم الحكيم إلا إذا سُئل". مقولةٌ ربما تكون نافعةً، لكن قلَّما يتمُّ الاقتداء بها من قِبَل الناس؛ وخاصةً أولئك الذين يعانون من إفراطٍ في التحدُّث، أو مما يُسمَّى علمياً "الإسهال الكلامي". وهو بالطبع ليس أمراً عفوياً، بل حالةٌ مَرَضية يتجاوز من خلالها الإنسان حاجته الطبيعية للكلام والإفصاح عمَّا يجول في خاطره بغية التواصل مع الغير، ليصبح الكلام وسيلةً للتعويض وآليةً لتحصيل الأمان! ومن أبرز الصفات التي تميّز أحاديث الشخص المصاب بهذا المرض هو غياب الأفق في حديثه الطويل والشبيه بالمستقيم الذي له بداية وليس له نهاية، إضافة إلى انعدام بناء الفكرة أو التسلسل المنطقي لها، وذلك لأنه يريد إخبارك عن كلّ شيء في اللحظة ذاتها! حتى تكاد أن تشعر، وأنت تُجالسه، بأنّ حديثه انقسامٌ دائمٌ لا ينتهي! وغالباً ما تكون فرص الحوار معه معدومةً، وليس السبب في ذلك أنه متعنّتٌ في رأيه يرفض الآخر، ولكن لأنه لا يستمع إلَّا إلى صوته، وبالمقابل ليس لديه أي صبر للاستماع للآخرين. لذلك هو في نهاية المطاف لا يحاور، بل يتحدّث إلى نفسه بصوتٍ عالٍ، فيبني من خلال التكلُّم سُورَه المنيع الذي يحيط به ويحميه من القلق، وربما من الفزع الداخلي الذي يعانيه. وفي هذا الصدد يرى بعض المحلّلين النفسيين أن سبب هذه العلّة يعود إلى القلق الزائد والمتنامي، حيث تزداد الثرثرة بارتفاع وتيرة القلق. بينما يرى البعض الآخر أنه وبفعل قلَّة النشاط الحركي لدى الشخص أو قيادته لسيَّارته لساعات طويلة يومياً تتعزَّز لديه الحاجة إلى الكلام. أو ربما يكون السبب هو غياب هذا الشخص عن التجمُّعات الأهلية وعن الناس لفترة طويلة ومن ثم عودته ولقائه بهم فجأةً، ما يدفعه إلى محاولة تعويض الفترة التي غاب عنهم بها من خلال الاسترسال في الحديث عنها. ويرى آخرون أن السبب في هذا التسريب الكلاميّ مرضٌ عضويّ وعصبيّ، لا نفسيّ، حاصلٌ في الدماغ، وليس مجرَّد ردود فعلٍ تجاه أوضاع اجتماعية معيَّنة. وقد تترافق مشكلة الإسهال الكلامي هذه مع حالة مَرَضية تتمثّل في الإسراع في التحدُّث والعجلة في إيصال الأفكار والمعلومات. أو تترافق مع حالة مرضية أخرى تسمّى بـ"الكذب الأسطوري" حيث يبالغ من خلالها المتكلّم في رواية قصصه، وكثيراً ما يلجأ من خلال أحاديثه إلى الاستعانة بالخيال المبالَغ فيه لتضخيم روايته ولإشباع رغبته في جذب المستمعين.
ايلاف