لماذا يتفاوت إحساسنا بالزمن بين حادثة وأخرى؟
December 24, 2019
من المجتمع
وبالرغم من أن علماء الأعصاب لم يعثروا في الدماغ على ساعة واحدة مسؤولة عن رصد مرور الوقت، إلا أن البشر لديهم قدرة فائقة على تقدير الزمن. فلو أن شخصا أخبرك أنه سيصل في غضون خمس دقائق، ستتمكن من تقدير الزمن المتبقي لوصوله، وكلنا يستطيع تقدير الأسابيع والشهور. ولهذا قد يقول معظم الناس إن الوقت يمر بوتيرة ثابتة وقابلة للقياس وفي اتجاه واحد من الماضي إلى الحاضر.
ومما لا شك فيه أن نظرة البشر للزمن ليست محصلة عوامل بيولوجية فقط، بل ساهمت في تشكيلها أيضا عوامل ثقافية وزمنية، فقبيلة أمونداوا في الأمازون على سبيل المثال، لا تعرف معنى الوقت، أي لا يدرك أفرادها الإطار الزمني الذي تقع فيه الأحداث، ولا تضم مفردات لغتهم كلمة "وقت".
وكان أرسطو ينظر للحاضر على أنه دائم التغير. وفي عام 160، وصف الفيلسوف والإمبراطور ماركوس أوريليوس الزمن بأنه نهر من الأحداث العابرة.
وفي القرن الماضي، قلبت اكتشافات ألبرت أينشتاين مفاهيمنا عن الوقت رأسا على عقب، إذ برهن أينشتاين على أن الزمن هو محصلة لمؤثرات خارجية عديدة. وأثبت أن الزمن نسبي، فقد يتباطأ عندما تتحرك الأشياء بسرعة فائقة، وأن الأحداث لا تقع بالتسلسل، فلا يتفق اثنان على كلمة "الآن" بمقاييس قوانين نيوتن.ويرى عالم الفيزياء كارلو روفيلي، أن الزمن لا يتدفق ولا وجود له من الأصل، بل هو مجرد وهم. وحتى لو كان الزمن غير موجود، فإن إحساسنا بالزمن حقيقي، ولهذا تتعارض الأدلة الفيزيائية أحيانا مع الواقع. وتعكس رؤيتنا للمستقبل والماضي واقع حياتنا على سطح الأرض.
وينظر الكثيرون للماضي على أنه يشبه مجموعة ضخمة من شرائط الفيديو، أو دار محفوظات نلج إليه لنسترجع منه بعض سجلات الأحداث في حياتنا.
لكن علماء النفس أثبتوا أن الأحداث التي ينساها معظم الناس أكثر بمراحل من تلك التي يتذكرونها، وأحيانا ننسى أن بعض الأحداث وقعت من الأصل، رغم إصرار البعض أننا كنا حاضرين فيها.وعندما ندون الذكريات، نعيد ترتيب الأحداث في أذهاننا دون وعي وقد نغيرها لتتفق مع أي معلومات جديدة عرفناها عن الحدث. ومن السهل للغاية إقناع الآخرين بأنهم خاضوا تجارب لم تقع قط.
وأجرت عالمة النفس، إليزابيث لوفتوس، أبحاثا في هذا الصدد لعقود أدخلت خلالها إلى أذهان بعض المشاركين ذكريات غير حقيقية، مثل إقناعهم بأنهم قاموا بتقبيل ضفدع أخضر عملاق، أو التقوا شخصيات كرتونية. وقد تتضمن أيضا القصص التي نحكيها لأصدقائنا أحداثا غير حقيقية استقيناها من ذاكرتنا التي تبدلت فيها الأحداث دون وعي.
وقد يفترض البعض أن استشراف المستقبل يختلف كل الاختلاف عن استرجاع الماضي، مع أن العمليتين في الحقيقة متلازمتان. فنحن نوظف أجزاء مشابهة من الدماغ لاسترجاع الماضي أو لتصور حياتنا في السنوات القادمة. إذ تساعدنا ذاكرتنا في تصور المستقبل وإعادة ربط الأحداث ببعضها لتخيل الأحداث المقبلة في أذهاننا. وهذه المهارة تمكننا من وضع الخطط واقتراح احتمالات جديدة قبل أن نشرع في التنفيذ.
وتحدث كل هذه العمليات الذهنية كنتيجة للطريقة التي تتعامل بها أدمغتنا مع الزمن. إذ يظل الطفل الرضيع، الذي لم تتطور لديه بعد الذاكرة الذاتية، عالقا في الحاضر، فهو يمر بمختلف المشاعر، من سعادة وبكاء وجوع وحزن، لكن لا يمكنه أن يتذكر مثلا كيف كان الطقس الشهر الماضي أو يتوقع انخفاض درجات الحرارة في الأيام المقبلة.
ويتطور لدى الطفل الإحساس بالذات تدريجيا، ثم يشرع في إدراك الزمن، وأن أمس يختلف عن الغد. وعندما سألت جيني باسبي غرانت، عالمة النفس، أطفالا في الثالثة من عمرهم عن خططهم لليوم اللاحق، لم يتمكن إلا ثلث الأطفال من إعطاء إجابة مقبولة على السؤال.
أما عالمة النفس كريستينا أتانس، فقدمت لأطفال صغار فطائر البريتزل المالحة، ثم خيرتهم ما بين الحصول على المزيد من الفطائر أو الماء، واختار الأطفال بالطبع الماء لشعورهم بالعطش بعد تناول الملح. لكن عندما سألتهم إن كانوا يفضلون تناول الفطائر أو الملح في اليوم اللاحق، اختار أغلبهم الماء، لأن الأطفال الصغار لا يمكنهم تصور أن شعورهم في المستقبل سيختلف عن شعورهم في اللحظة الآنية.
وثمة عوامل عديدة تسهم في تشكيل نظرتنا للزمن، منها الذاكرة والتركيز والمشاعر وإحساسنا بالزمن. ويلعب الزمن دورا كبيرا في تحديد الطريقة التي ننظم بها حياتنا والكيفية التي نعيشها بها.
لكن رؤيتنا للزمن قد تتعارض أحيانا مع قوانين الفيزياء. فقد نقول إن الشمس تطلع نهارا وتغيب مساء، رغم أن العلم أثبت أن الأرض هي التي تدور وليس الشمس.وقد تصبح ذكرياتنا موردا يوفر لما المعلومات التي تتيح لنا التفكير في المستقبل. ولولا قدرة البشر على التنقل ذهنيا بين الماضي والحاضر والمستقبل، لما استطعنا أن نخطط للمستقبل أو نبدع فنونا، وهذه القدرات هي سر تميز البشر عن سائر الكائنات الحية. ووصف أرسطو الذكريات بأنها أداة لتخيل المستقبل، وليست مجرد سجلات لحياتنا في الماضي.
ولهذا فإن صعوبة استعادة بعض الأحداث بدقة من الماضي تعد ميزة وليست عيبا، لأن الذكريات إذا كانت راسخة كشرائط الفيديو سيتعذر علينا تخيل مواقف جديدة. فإذا طلبت منك أن تتخيل أن تذهب لعملك الأسبوع القادم على عوامة وسط قناة زرقاء محاطة بأزهار إستوائية، وتمر أمام المباني التي تراها يوميا ويستقبلك أصدقاؤك القدامى من أيام الدراسة، أمام الباب الأمامي لشركتك، فإن معظم الناس بإمكانهم تخيل هذه الصورة باستثناء المصابين بضعف حاد في الذاكرة الذاتية.
وذلك لأن ذاكرتنا تتميز بمرونة فائقة تتيح لنا استدعاء تفاصيل الشارع الذي يقع فيه مقر عملك وشعورك عند الاستلقاء على عوامة، ووجوه زملاء المدرسة وحتى صور الأزهار الإستوائية، ثم تنسج هذه الذكريات ببعضها لخلق مشهد متكامل لم تره أو تسمع عنه من قبل.وتؤثر أمراض الذاكرة على قدرتنا على التفكير في المستقبل، وعندما طلب عالم الأعصاب إلينور ماغوير من بعض الناس أن يتخيلوا أنهم يقفون في متحف في المستقبل، استطاع بعضهم أن يتخيل تفاصيل سقف المتحف، بينما لم يتمكن المصابون بالخرف من تصور معالمه، وذلك لأننا نعتمد على الذاكرة للتفكير في المستقبل.
وفي مرحلة الكهولة، قد تخال أن الأسابيع والسنوات تمر عابرة في لمح البصر. لكن إحساسنا بالوقت يتوقف على حجم الذكريات الجديدة التي تكونت في أدمغتنا. فإذا خرجت في رحلة مفعمة بالأحداث ستشعر حينها أنها مرت سريعا، لكن عند استرجاعها لاحقا ستشعر أنك مكثت شهورا. وقد يرجع ذلك إلى الذكريات الجديدة التي تكونت أثناء الأسبوع الذي أمضيته بعيدا عن الروتين اليومي المعهود.
وإذا كنت تشعر أن الحياة تمر سريعا، فهذا يدل على أن حياتك مليئة بالأحداث. لكن بشكل عام، ستشعر أن الوقت يمر ببطء إذا كنت تشعر بالملل أو الضيق أو الوحدة أو بأنك منبوذ. وكتب بلينيوس الأصغر في عام 105 ميلاديا أن الأوقات كلما كانت ممتعة، بدت كأنها تمر سريعا.
وإذا أردت أن تتخلص من ذاك الحزن الذي ينتابك عند انتهاء عطلة نهاية الأسبوع، ينصح بالبحث دائما عن تجارب جديدة طوال أيام العطلة، مثل مزاولة أنشطة جديدة أو زيارة أماكن جديدة، بدلا من ممارسة نفس الأنشطة وزيارة نفس المطاعم التي تزورها في كل عطلة. وحين تعود إلى عملك في بداية الأسبوع ستشعر أن العطلة كانت طويلة بسبب الذكريات الجديدة التي تكونت خلالها.
وإذا غيرت أسلوب حياتك وأضفيت عليها بعض المتعة والتشويق ستشعر أن الأسابيع والسنوات أصبحت أطول عندما تتأملها لاحقا، حتى لو اكتفيت بتغيير الطريق الذي تسلكه يوميا إلى عملك.
وفي النهاية، لعل سانت أوغستين كان محقا حين سأل: "ما هو الوقت؟ لو لم يسألني أحد، فأنا أعرفه. لكن إذا أردت أن أفسره لشخص يسألني عنه، فستخونني الكلمات".
بي بي سي