• Monday, 23 December 2024
logo

ذكريات الطفولة المبكرة قد تكون من "نسج الخيال"

ذكريات الطفولة المبكرة قد تكون من
كنت أقفز مرحا بين الزهور المنسقة في إحدى الحفلات التي أقيمت في حديقة في يوم صيفي قائظ، وكنت مستمتعة باهتمام جدتي والفتيات الأكبر سنا اللائي يرتدين فساتين بألوان زاهية. كان عمري حينها عامين تقريبا، لكن ذكريات الحفل بدت مبهمة وغير واضحة المعالم.

غير أنني لا أعلم ما إن كانت هذه الذكريات حقيقية أم من نسج خيالي، إذ يقول والداي إن معظم التفاصيل في هذه القصة ربما قد نقلتها من صورة لحفل في منزل جيراننا في الثمانينيات.

وأشار باحثون إلى أن أربعة من بين كل عشرة أشخاص يختلقون ذكريات الطفولة المبكرة، ويرجع ذلك إلى أن الدماغ قبل بلوغ عامين لا يكون قادرا على اختزان ذكريات الأحداث الشخصية.

تقول كاثرين لوفداي، باحثة في ذاكرة الأحداث الشخصية بجامعة ويستمنستر، إن الأطفال لا يمكنهم تكوين ذكريات طويلة الأمد. إذ تتكون في مرحلة الطفولة خلايا جديدة في الدماغ قد تعوق التواصل اللازم بين الخلايا العصبية لاختزان المعلومات في الذاكرة طويلة الأجل. ولهذا لا يتذكر أغلب البالغين إلا القليل من الأحداث من مرحلة الطفولة. وأشارت دراسات أخرى إلى أن الأطفال من سن سبع سنوات يعجزون عن استرجاع ذكريات الطفولة المبكرة.وأجريت دراسة بقيادة مارتن كونواي، مدير مركز الذاكرة والقانون بجامعة سيتي بلندن، شملت 6,641 شخصا، وذكر الباحثون أن 2,487 من الذكريات التي سردها المشاركون كانت قبل أن يبلغوا سن عامين، وذكر 14 في المئة من المشاركين أنهم يتذكرون عيد ميلادهم الأول، والبعض يذكر أحداثا وقعت حتى قبل مولده.وخلص كونواي وفريقه إلى أن هذه الذكريات ليست حقيقية على الأرجح، بسبب السن الذي وقعت فيه هذه الأحداث. ولو صدقت نتائج الدراسة، فإن الكثير من الأحداث التي نتذكرها من سنوات الطفولة المبكرة لم تحدث في الواقع.

وقد يعزى ذلك إلى أننا نبحث دائما عن سرد متكامل لحياتنا وقد نختلق قصصا لملء الفراغات والحصول على صورة متكاملة.

وتقول كيمبرلي ويد، باحثة في الذكريات والقانون بجامعة ويرويك: "كلما طرأت فكرة على أذهاننا، يجب أن نتساءل هل عشنا هذا الحدث بالفعل أم هو نسج خيالنا أم سمعناه من آخرين."

ولا تنكر ويد نفسها أنها أمضت ذات مرة وقتا طويلا تحاول استرجاع حدث وقع لأخيها وكانت تظن أنها هي نفسها التي عايشت هذا الحدث، ومع ذلك كانت تتذكر الحدث بدقة إلى حد أنه حرك مشاعرها. وتقول: "إن التفاصيل التي تذكرتها قد توحي بأن هذه الأحداث حقيقية وكأنني عايشتها بالفعل، ولكنني في الحقيقة تحدثت عنها فقط".وأثبت باحثو الذاكرة أنه من الممكن تحفيز الناس على اختلاق ذكريات لأحداث غير حقيقية، منها أنهم ضلوا الطريق في مركز تجاري أو احتسوا الشاي مع أحد أفراد العائلة الملكية في الماضي. وأثبتت جوليا شو، عالمة نفس بكلية لندن الجامعية، أنه من الممكن إقناع أشخاص بأنهم ارتكبوا جريمة عنيفة لم تحدث في الواقع.

وطرح الباحثون على المتطوعين في الدراسة أسئلة توحي بإجابة محددة، باستخدام أساليب استرجاع الذكريات، وفي النهاية سرد 70 في المئة منهم ذكريات غير حقيقية عن جريمة ارتكبوها في الماضي، وبعضهم خيل إليه أنه اعتدى على شخص ما بسلاح. ووصف ثلاثة أرباع المتطوعين بالتفصيل شكل ضباط الشرطة.

وهذا يدل على أن الأسئلة الإيحائية في التحقيقات قد تجعل المجيب يستدعي ذكريات مختلقة غنية بالتفاصيل.

وتقول شو إن جميع الناس قادرون على تكوين ذكريات زائفة إذا تهيأت لهم الظروف المناسبة، لكن القابلية للتجاوب مع أساليب تزييف الذكريات تتفاوت من شخص لآخر.

إذ أشارت دراسة إلى أن الأطفال أكثر عرضة لتكوين ذكريات مختلقة بعد إدامة النظر في صور أو مقاطع فيديو، مقارنة بالبالغين، كما تؤثر السمات الشخصية على القابلية لتكوينها.

وتقول ويد: "إذا كنت ممن ينغمسون في القراءة إلى حد أنهم لا يلاحظون ما يحدث من حولهم، فأنت أكثر عرضة للاستجابة لمحاولات تزييف الذكريات".لكن الاحتفاظ بذكريات زائفة لسنوات طويلة قد يؤثر على حياتك أكثر مما تظن، لأن الأحداث التي نتذكرها منذ الطفولة قد تساعد في تشكيل حياتنا في الكبر وتحديد أذواقنا ومخاوفنا وحتى سلوكياتنا.

وقد أثبتت نحو 20 تجربة أن غرس ذكريات زائفة عن أطعمة لذيذة أو منفرة، قد يؤثر على خيارات الناس للأطعمة على المدى الطويل. وفي إحدى الدراسات، أخبر الباحثون 180 متطوعا أنهم أصيبوا بالغثيان بعد تناول شطائر البيض في الطفولة، وبالرغم من أن هذا الأمر غير حقيقي، إلا أن عددا قليلا من المتطوعين انطلى عليهم الأمر وتجنبوا تناول شطائر البيض على الفور.

وقد نجح خبراء بالاستعانة بهذه الطريقة في إقناع الناس بالإحجام عن تناول الكثير من المأكولات، منها البوظة. وخلص استعراض لهذه التجارب إلى أن غرس معلومات زائفة عن الأطعمة التي يتناولها الناس في المناسبات أسهل من غرسها عن الأطعمة الشائعة.

وقد تؤثر الذكريات الزائفة أيضا على نظرة الناس وسلوكياتهم تجاه الخمر، إذ أوحى علماء في إحدى التجارب إلى المشاركين بأنهم شعروا بغثيان بعد تناول الفودكا في الماضي، وأحجم بعدها الكثير من المشاركين عن تناولها.ويرى الكثير من العلماء أن غرس المعلومات الزائفة عن الأطعمة قد يستخدم للقضاء على السمنة وتشجيع الناس على تناول الأطعمة الصحية، أو للحد من استهلاك الخمور. ويقول العلماء إن أساليب الإيحاء الإيجابية، مثل "أنت أحببت الإسبراغوس عندما تذوقته أول مرة"، أكثر فعالية من الإيحاءات السلبية، مثل "أنت أصبت بالغثيان عندما شربت الفودكا".

لكن الأسئلة الإيحائية التي ترمي إلى إيهام الناس بأنهم يتذكرون أحداثا غير حقيقية قد يكون لها عواقب وخيمة، وخاصة في المحاكم.

ويقول كيفن فيلستيد، من جمعية الذكريات الزائفة البريطانية، إن هذه الذكريات الزائفة قد تؤدي إلى نتائج كارثية، منها الحبس وضياع السمعة والوظيفة والمركز الاجتماعي وانهيار الأسرة. ويشير إلى إحدى القضايا الشهيرة التي انتهت بانتحار المدعي.

ولا يزال من المستحيل التمييز بين الذكريات الحقيقية والمختلقة في القضايا التي تنطوي على ذكريات زائفة، ولم تفلح حتى الآن أجهزة مسح الدماغ في رصد أنماط عصبية معينة ترتبط بالذكريات المزيفة أو الحقيقية.

ولعل أخطر أنواع غرس الذكريات الزائفة، هي تلك التي تنطوي على حث المريض على العودة ذهنيا إلى سنوات الطفولة من خلال التنويم المغناطيسي، ليعيش مرة أخرى أحداثا أو صدمات واجهها أيام الطفولة، ويفترض أنها مكبوتة في اللاوعي. وترى الكلية الملكية لأطباء النفس، أن هذه الطريقة تساعد على تكوين ذكريات لأحداث لا أساس من الصحة.

وأشار البعض إلى أن هذه الطريقة في العلاج باستدعاء الذكريات المكبوتة كانت السبب وراء انتشار ظاهرة عبدة الشيطان في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، واعتقل البعض على خلفية ارتكاب جرائم شنيعة، مثل دفن أطفال أحياء والانتهاك الجنسي، التي يعتقد البعض الآن أنها كانت مبنية على ذكريات زائفة.

ويقال إن إحدى أخطر حالات تزييف الذكريات هي قضية عاملي رعاية صحية أمضيا في السجن 21 عاما على خلقية اتهامهما بإخراج قلب من جسد رضيع، ودفن أطفال أحياء وإلقاء أخرين في حمام سباحة مليء بأسماك القرش، وبرأت المحكمة ساحتهما في عام 2017.لكن ذاكرتنا عرضة أيضا للتغيير من وقت لآخر، حتى من دون إيحاءات. وتقول لافداي، إن الذكريات هي تنشيط لشبكات عصبية في الدماغ، وكلما استرجعناها قد تدخل عليها عناصر جديدة أو تتغير بعض عناصرها أو ننساها. إذ تتأثر الذكريات برؤيتنا وحالتنا المزاجية ومعلوماتنا وحتى الأشخاص الذين استرجعناها معهم.

لكن هذا لا يعني أن جميع الأدلة المستندة إلى ذكريات باطلة أو لا يعول عليها، إذ طالما رجحت أقوال الشهود في القضايا الجنائية. وهذا ما دفع الجهات التشريعية إلى وضع قواعد وإرشادات تحكم أساليب استجواب الشهود والضحايا، لضمان عدم تعمد المحققين أو وكلاء النيابة التلاعب بذاكرتهم لتغيير المعلومات التي يتذكرونها عن الحادث أو الجاني.

ولعل أفضل طريقة للتعرف على مدى صحة ذكريات الطفولة أو زيفها، هي البحث عن إثبات مثل صورة أو مقطع فيديو أو تدوينة في المفكرة.

وهناك بعض القواعد التي قد تساعدنا على معرفة ما إن كان الحدث الذي نستحضره في ذهننا قد وقع بالفعل أم من نسج الخيال.

بداية، إذا كان هذا الحدث قد وقع قبل بلوغ ثلاث سنوات، فأغلب الظن أنه خاطئ. وإذا كنت تتذكره بوضوح وبكل تفاصيله كأنك تشاهد مقطع فيديو، فمن المرجح أيضا أن يكون من وحي الخيال. أما إذا بدا الحدث مبهما أو مليئا بالفراغات، فهو على الأرجح حقيقي ما دام لا يعود إلى مرحلة الطفولة المبكرة.

وينصح كونواي بإمعان النظر في الحدث الذي يستحضره ذهنك والبحث عن تفاصيل منافية للمنطق أو غير واقعية.

وليس من الصائب أن نتخلص من هذه الذكريات أيضا. فهذه الذكريات المشتركة سواء كانت حقيقية أو وهمية تربطنا معا، وتعزز التماسك الاجتماعي.

وتقول شو: "أتذكر أحيانا، أنني رأيت جدتي في إحدى المرات وحملتني وأخذت تهدهدني، وبعدها تبين لي أن هذا الحدث غير معقول، ولكني كلما تذكرته شعرت بالسعادة".

ولا شك أن هذه الذكريات تستحق أن نتمسك بها، حتى لو كنا على يقين أنها لا أساس لها من الصحة.








بي بي سي
Top