• Saturday, 06 July 2024
logo

(ميرنشين) فلم يحكي قصة امارة كوردية

(ميرنشين) فلم يحكي قصة امارة كوردية

طارق كاريزي- گولان العربی

 (ميرنشين)، مصطلح كوردي يعني (امارة، الامارة) باعتبارها كيان سياسي أو دولة محلية تتحكم بجغرافية محددة المساحة ذات حدود وسلطات، أو دولة تمارس السلطة ضمن نطاق امتدادها الجغرافية. كلمة ميرنشين هنا تذهب لأبعد من ذلك، انها قصة فلم سينمائي هي الآن في مرحلة التصوير.

بالعودة الى القرون الوسطى، تحديدا بداية القرن السابع عشر حيث كان الصدام بين الصفويين من الشرق والعثمانيين من الغرب على أشده، وكلا الطرفان الامبراطوريان يطمحان لمد وتوسيع مناطق سيطرتهم ونفوذهم الى أبعد نقطة ممكنة من باب الأبهة الإمبراطورية وبموازاة ذلك الحصول على أكبر إيرادات ممكنة من الضرائب لدعم اركان السلطة الإمبراطورية، علاوة على التقاطع المذهبي بين الجانبين.

الصراع العثماني الصفوي كان من أجل الاستحواذ على أوسع مساحة من جغرافية الشرق الأوسط وضمها لحدود كل منهما، ومع ان السلطان سليم العثماني استطاع في معركة جالديران أن يلحق هزيمة ساحقة بالشاه الصفوي اسماعيل الأول ودخل مدينة تبريز أول عاصمة للصفويين، الا ان ذلك لم ينهي الصراع بين القوتين، بل كانت كل منهما تتحين الفرص للهجوم على الأخرى وانتزاع الأراضي منها، ومن سخريات القدر ان قطب رحى هذا الصراع كانت تدور فوق أرض كوردستان، وهذا دفع الكورد نحو لجة هذا الصراع سواء أرغبوا فيه أم لم يرغبوا، خصوصا وأن الصراع الصفوي العثماني استمر طوال قرون عدة أثقل كاهل الكورد وانتزع منهم الكثير من الضحايا مع تغييرات ديموغرافية كبيرة طرأت على المنطقة أضرّت بجغرافية كوردستان وأبعدت أعدادا كبيرة منهم نحو مناطق بعيدة عن موطنهم.

تؤكد المصادر التاريخية ان معركة جالديران بين العثمانيين والصفويين عام 1514 شكلت بداية تقسيم كوردستان الى قسمين احدهما عثماني تحالف أو خضع لسلطة العثمانيين والآخر ظل تحت سلطة الصفويين أو ضمن نطاق نفوذهم. مع تواصل الصراع الصفوي العثماني ومن ثم العثماني مع السلالات الإيرانية التالية، تحولت كوردستان الى ساحة مفتوحة للصراع الدموي بين الجانبين. ووجد القادة والرؤساء الكورد أنفسهم والشعب غير مخيرين في خضم هذا الصراع المرير، ولعل التقارب المذهبي بين العثمانيين وأغلبية الكورد جعل التحالف الكوردي العثماني أوسع نطاقا، وبين هذا وذاك، كان الأمراء والقادة الكورد أحيانا يختارون المواجهة مع أي من الامبراطوريتين دفاعا عن حريتهم واستقلالهم، وأبرز مثال على ذلك المواجهة الملحمية الشهيرة بين الأمير الكوردي البرادوستي الخان ذو الكف الذهبي مع الشاه عباس الصفوي، واحيانا أخرى كان الكورد يتفاوضون مع أحد الطرفين ويتوصل الجانبان الى اتفاقات تضمن السلم والتعاون بين الجانبين، كمبادرة الملا ادريس البدليسي الشهيرة التي دفعت الدول والامارات الكوردية الى التحالف مع العثمانيين مقابل تواصل حكمهم لدولهم واماراتهم. وبعض الأحيان كان الرؤساء والقادة الكورد يعادون أحد طرفي الصراع في الشرق الأوسط آنذاك ويلجؤون الى الطرف الآخر، وابرز مثال على ذلك الأمير شرفخان البدليسي الذي دخل الصدام مع العثمانيين ولجأ الى الصفويين وبات من المقربين من البلاط الصفوي، والف سفره الشهير (الشرفنامة) عن تاريخ الدول والامارات الكوردية هناك بالفارسية. 

وفي أتون الصراع العثماني الصفوي المرير، تعد قصة قبيلة زنكنة مثيرة وجديرة بالدراسة. هذه القصة تحولت الى مادة فلم سينمائي كتب نصه اوميد زنكنة وتولى المخرج زمناكو هيدايت كتابة السيناريو وإخراج الفلم، واطلق على الفلم اسم (ميرنشين) وتعني بالعربية (الامارة) وقد تم تمويله من قبل رجل أعمال كوردي من قبيلة زنكنة.

يواصل فريق كبير من الممثلين والفنيين من مدينة كركوك تصوير مشاهد الفلم في مناطق متعددة من كركوك والمحافظات المجاورة، وانضم فريق آخر من الممثلين من حلبجة واربيل والسليمانية وبنجوين ومدن كوردستانية أخرى الى فريق الممثلين الذي توزعت أدوار الفلم عليهم كل بحسب قدراته مع شخصيات الفلم وأبطاله.

ان أحداث الفلم تعود بنا الى بدايات القرن السابع عشر وتحديدا الى عام 1615 عندما تصدت قبيلة زنكنة في شرقي كوردستان للقوات الصفوية بقيادة أمراء وبيكات القبيلة ورفضت الخضوع لسلطتهم، وبعد مقاومة مشرّفة أبدتها هذه القبيلة الكوردية تبين لكبار قادتها بأن الظفر لن يكون حليفهم بسبب التفاوت الكبير في القوّة والامكانيات اللوجستية، فهاجرت القبيلة من شرقي كوردستان الى جنوبي كوردستان تاركة مناطقها الاصلية في منطقة كرماشان واستقرت بين عشائر كرميان جنوب شرق كركوك. وبعد استقرار القبيلة في منطقتهم الجديدة واصلوا التصدي لتقدم الصفويين واعلن الأمير إسماعيل زنكنة امارة باسم القبيلة واتخذ من بلدة قيتول عاصمة لامارته.

وكان الأمير إسماعيل زنكنة الى جانب قدراته في السياسة وإدارة الامارة واتسامه بالحكمة والحنكة، كان شاعرا مبدعا انتشرت قصائده بين أبناء منطقة كرميان وظلت الأجيال تحفظها عن ظهر القلب جيلا بعد جيل، فيما قرأ العديد من قراء المقام عددا من قصائده، ومع انه لم يطبع حتى الآن ديوان جامع لاشعار الأمير، الا ان العديد من قصائده نجدها متناثرة في المخطوطات الكوردية هنا وهناك.

ان المواجهات التي اندلعت بين افخاذ من قبيلة الزنكنة والقوات الصفوية ومن ثم هجرة القبيلة من موطنها السابق الى منطقة خاضعة للسلطات العثمانية فتح الباب أمام بناء علاقة ودية بين العثمانيين وهذه القبيلة الكوردية التي تلقت العون والتفهم من جانب العثمانيين خصوصا وأنها تصدت للقوّة المنافسة للعثمانيين، وأعلن الأمير إسماعيل في هذه الأثناء امارة زنكنة التي لم يرى فيها العثمانيين خطرا عليهم.

هكذا نرى ان الكورد وهم يعيشون تفاصيل تواصل الصدامات بين قوّتين كبيرتين آنذاك تتحول فيها كوردستان الى ساحة للحرب والصراع بين العثمانيين من جهة الغرب والصفويين من جهة الشرق، يبذل فيها قادتهم ورؤسائهم محاولات باتجاه تحقيق الاستقلال والخلاص من لجة هذا الصراع المستديم بين الجانبين، مرّة عن طريق المواجهة مع هذه الدول التي حاولت اخضاع الكورد، وخير نموذج لذلك هو الأمير الخان ذو الكف الذهبي الذي تصدى للصفويين في قلعة دمدم الشهيرة خلال عامي 1609 و 1610 في مسعى من الخان لتحقيق الاستقلال ووضع حد لتمدد الصفويين نحو عمق الأراضي الكوردية، وأخرى من خلال الحوار والتفاوض وخير مثال على ذلك هو الملا ادريس البدليسي (ولد منتصف القرن الخامس عشر وتوفي في الربع الأول من القرن السادس عشر) الذي فاوض العثمانيين وضمن استقلال الدول والامارات الكوردية من خلال اعلان تحالف كوردي عثماني يضمن التصدي للتمدد الصفوي باتجاه الأناضول. وقد خبرت قبيلة زنكنة الحالتين حيث تصدت للصفويين بسبب عدم توافق المصالح والرؤى بين الجانبين وتفاوضت مع العثمانيين لتضمن من خلال ذلك استقلال ذاتي لامارة كوردية استمرّت لمدة طويلة تحكم منطقة كرميان وما جاورها جنوب كركوك، هذه المنطقة التي عرفت في الأزمنة القديمة باسم كرمكان بحسب الرقم الطينية الموروثة من حضارات وادي الرافدين.

ان مشاهد فلم (ميرنشين) تعود بنا الى سرد تفاصيل أحداث ذلك التاريخ الوسيط، وقام كاتب القصة اوميد زنكنة بتصفح مصادر التاريخ الكوردي التي تتناول أحدث تلك الفترة وهو يعيد عرض قصة عشيرة زنكنة من خلال تصديها للصفويين الذين اكتسحوا الأراضي المجاورة لهم بكل الاتجاهات، لكن لقيت مصاعب جمّة من حيث فرض السيطرة على أرض كوردستان بسبب الاستعداد العالي لدى القادة والأمراء الكورد ومعهم أبناء شعبهم للتصدي للغزاة وعدم استعدادهم للتنازل عن استقلاليتهم التي وجدت تجاوبا بنّاء من جانب العثمانيين وذلك ربما للتوافق المذهبي بين الجانبين، ويستعرض الفلم مقطعا من قصة مرحلة مهمة ومفصلية من تاريخ احدى القبائل الكوردية وتفاصيل تصديها للغزاة، هذا التصدي المرصع بجواهر من البطولة والمهارة في خوض المعارك رغم التفاوت الكبير من حيث موازين القوى بين الطرفين، وافرزت المقاومة الكوردية التي أبلى فيها المقاتلون الكوردستانيون البلاء الحسن عن ولادة كيان مستقل حليف للعثمانيين.

رؤية مخرج الفلم ومعد سيناريوه، زمناكو هيدايت جاءت متوافقة مع كاتب نص الفلم من حيث السرد الصوري عبر شاشة الفن السابع لأحداث تؤكد تشبث الكورد بالحرية وعدم تنازلهم عن الاستقلال مهما عظمت التضحيات ومهما كانت القوّة التي تحاول كسر شوكة هذا الشعب المتمسك بالاستقلال الرافض للتنازل عن الحرّية حد الفناء. ولقي الفلم تجاوبا كبيرا من قبل شريحة واسعة من فناني كركوك وباقي مدن كوردستان للمشاركة في فريق انتاجه موزعين على فرق التمثيل والأداء وفرق التصوير والتقنيات، علاوة على فريق الخدمات اللوجستية. 

شارك في أداء أدوار هذا الفلم أكثر من 30 ممثلة والعشرات من ممثلي كوردستان حيث تعود بنا مشاهد الفلم الى بدايات القرن السابع عشر من حيث أجواء ذلك الزمان وطبيعة الحياة آنذاك والبيئة البشرية والطبيعة علاوة على الأزياء الكوردية التقليدية السائدة في القرون الوسطى، والحماس الذي يبديه فريق العمل هو بمثابة الضمان لنجاح هذا الفلم.

 

 

(ميرنشين) فلم يحكي قصة امارة كوردية

(ميرنشين) فلم يحكي قصة امارة كوردية

Top