بغداد وأربيل.. تغيّر في قواعد السلوك السياسي
طالب محمد كريم
تُشكل زيارة الرئيس مسعود البارزاني إلى بغداد لحظة تاريخية قد تتجاوز الإرث الكبير من الاحتدام والتنافر بين الديموقراطي والأحزاب والكتل السياسية التي لها اثر كبير في صناعة القرار السياسي.
هذا ما يؤكده في تصريحه الصحفي الذي قال فيه: (قطعنا شوطاً مهماً في بناء الثقة بين الحكومة الاتحادية، وحكومة الاقليم وتجاوزنا مشاكل كثيرة، موروثة منذ سنوات وفق الدستور والقانون).
عند اجراء تفكيك وتحليل النص نستشفّ منه إن المشكلة الأساس التي تحكم العلاقة البينية (احزاب بغداد - وأحزاب الإقليم) تكاد تكون علاقة هشّة متزعزعة، بسبب أزمة الثقة الغالبة على التفاهمات وعقد الاتفاقات الإستراتيجية ما بين الطرفين.
إذ كان الحراك السياسي في تقسيم الأدوار وإدارة الدولة غالبا ما كانت تسير وفق الحالة الآنية التي تستبطن المصلحة الحزبية أو الفئوية والتي سرعان ما تُواجَه عقبات أكثر تشابكاً وتداخلاً مما يعقّد الأزمة ويذهب بها إلى خيارات غامضة. إن افتقار الحلول نحو الجلوس إلى طاولة حوار تطرح مبادئ الدستور، على أن تكون خارطة طريق إلى الحلول الحقيقية والتي يمكن ان نَصِفُها بحلول مؤسساتية، حتى تترك بنتائجها فيما بعد، ومخرجاتها إلى الدورات اللاحقة للمضي في إكمال البرنامج السياسي بين بغداد واربيل، تغيبت عن افق العمل المستقبلي.
إذ أن من الأهمية بمكان الاشارة إلى مقتطفات الرئيس البارزاني من مفردات الدستور والقانون كما جاء في كلامه الصحفي، هي في حقيقتها توجيه للعقل السياسي نحو النقاط الآتية:
1- المادة 111 (الغاز والنفط هو ملك كل الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات) والمادة 112 (أولاً: تقوم الحكومة الاتحادية بادارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالية مع حكومات الأقاليم والمحافظات على ان توزع وارداتها بشكل منصفٍ يتناسب مع التوزيع السكاني في جميع أنحاء البلاد…) (ثانياً: تقوم الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة معاً برسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز…).
2- فضلاً عن المادة 48 التي تقول: (تتكون السلطة التشريعية الاتحادية من مجلس النواب ومجلس الاتحاد).
3- المادة 140 / أولاً-ثانياً
4- الباب الرابع من الدستور العراقي الذي هو اختصاصات السلطات الاتحادية.
هذه النقاط الاربعة هي أبرز إشكاليات الخلافات المتكررة طوال هذين العقدين، وارتكاز الرئيس البارزاني على الدستور والقانون في أن يكون مخرجاً آمناً لاستدامة العلاقة وبقاءها، يرسم توجهاً رفيع المستوى من الوعي السياسي الذي يَحتكم إلى العقد المشروط بالالتزام ومن جميع الأطراف التي شكلّت الدولة العراقية الحديثة.
اشارة الرئيس البارزاني إلى المواد سالفة الذكر تُعد تعبيداً للممرات السليمة بينها أي الحزب الديمقراطي وبين الأطراف الشريكة التي كانت ترى تجاوز حكومة الأقليم على اتفاقات الشراكة السياسية والمصالح الفدرالية، وفقرات الدستور. لذلك يفترض على مجلس النواب أن يبدأ العمل في تقديم مشروع قانون النفط والغاز وتقديمه للتصويت عليه فيما بعد وانهاء مرحلة غليظة من الاشتداد والعزلة السياسية للفواعل الإدارية لحكومات بغداد والإقليم.
من جانبه لابد من الاشارة إلى تأكيد السيد محمد شياع السوداني رئيس مجلس الوزارء إلى: أن الأوضاع الإقليمية والتطورات التي تحصل كانت جزءاً مهماً من هذا الحديث الذي يمثل ضرورة في هذه المرحلة الصعبة التي تواجه المنطقة، والتأكيد على امن وسيادة واستقلال العراق، وان يكون بعيداً عن ساحة الصراعات مع الحفاظ على مواقفنا المبدئية تجاه مختلف القضايا العادلة.
لكن رغم كل هذه العبارات التي توحي بإنتاج افكار ذات سياق آخر وإيقاع جديد يضبط العلاقة وينظمها، هي لم تأتِ من تلقاء تراكم التقاطعات وعقدة الخلل في أساس العلاقة فحسب، وإنما يعود إلى تغير قواعد السلوك السياسي للحزب الديمقراطي مع أهم دولتين جارتين هما:
اولاً: تركيا
اذ تعد زيارة الرئيس التركي السيد أردوغان إلى بغداد من شهر نيسان والتي جاءت بعد آخر زيارة له من سنة 2011.
إذ تم التوقيع على اتفاقيتين إستراتيجيتين وأكثر من 20 مذكرة تفاهم، أبرزها بشأن ملف المياه والزراعة والاقتصاد والتبادل التجاري. وكانت محطته الأخرى زيارة مدينة أربيل ولقاء كبار المسؤولين في الاقليم.
ثانياً: ايران
اذ قامَ رئيس إقليم كوردستان السيد نيجرفان بارزاني بزيارة رسمية إلى طهران، والتقى بكبار المسؤولين الايرانيين لمناقشة الملفات السياسية والأمنية والاقتصادية، اذ كشف احد الدبلوماسيين الايرانيين إن زيارة البارزاني إلى طهران تأتي تكريساً لرغبة أربيل وطهران بفتح صفحة جديدة في علاقاتهما وطي الخلافات الماضية .
نعود إلى إشارات دلالات النص المتضمن في معاني العبارات التي جاءت في تصريحات السيد السوداني والسيد البارزاني، إلى الرؤية الأوسع للسياسة الراهنة في المنطقة والعالم، التي تتجاوز حدود الـ محلي إلى الدولي. ما يجري من حروب وأزمات تنعكس باثارها الاقتصادية السلبية على الوضع العام للحياة الاجتماعية. هذه الرؤية التي تريد أن تتخذ من فرص التنمية وآفاق المستقبل مشروعاً سياسيا /اقتصادياً ينهض بالواقع العراقي من التشدد والضياع في فضاء المفتوح المجهول إلى فضاء البناء وتوفير الفرص وزيادة مساحة الاستثمار في قطاعات الدولة العراقية المتنوعة. وهذا ما اكد عليه السيد السوداني بقوله: (الحكومة ماضية في فتح فرص التنمية وآفاق المستقبل وبما يعود بالخير على ابناء شعبنا في كل مكان بالخير والرفاهية والازدهار.
هذه النصوص السياسية المتبادلة التي تخرج من اطراف قوى الدولة القابضة على القرار السياسي الحكومي الذي يعبّر عن عقل الدولة وأدواتها التنفيذية ، ماهي إلا إقرار صريح بدعم نتائج الزيارة التي يفترض أن تنقل من الحالة السابقة إلى حالة افضل، آليات تحقق الأمن الاجتماعي الذي يشعر به المواطن العراقي سواء كان في الاقليم أو خارجه، هذا الواقع الجديد لو استمر سيوفر سقفاً عالياً من الشاعرية المريحة عند المواطن ويمده بأسباب الولاء وحب الوطن والموطن.
أرى إن النتائج التي نستشرفها من خلال مجموعة المقدمات المعروضة آنفة الذكر يمكن لها أن تتحق عندما تكون النوايا سليمة، والرؤى وطنية، والبرامج رصينة، تتغذى من عنوانات فلسفة الدستور والغاية الفاضلة من تأسيس مؤسسات الدولة وأهدافها. المستقبل الآتي هو الذي سيكشف للرأي العام عن حجم الزعامات وثقلها الحقيقي في العمل الميداني وتأثيرها على المشهد الوطني.
روداو