• Saturday, 27 April 2024
logo

كنا وعمي عند الرحّل

كنا وعمي عند الرحّل

سيروان رحيم 

 

كمال صادق كوكجلي، هذا هو الاسم الكامل لأستاذ كتابة الرواية القدير ياشار كمال. اسمه كمال واسم أبيه هو صادق، واسم عائلته هو كوكجلي.

من فرط حبه لوالده، أطلق هذا الكاتب اسم والده (صادق) على أحد أبناء إخوته.

في حوار مقتضب جرى في إسطنبول، تحدث صادق كوكجلي، ابن أخ ياشار كمال، عن علاقته مع عمه، علاقته مع هذا الكاتب الكبير.

قلت للسيد صادق: هل لك أن تروي لي ذكرى مقتضبة ومؤثرة، لكن غير مسموعة، مع عمك؟

بعد فترة صمت، نطق صادق كوكجلي وقال:

يمر بقرية (قادرلي) نهر اسمه (سافرون). قال عمي دعنا نذهب إلى هناك، انطلقت مع عمي وصديقين لي نحو النهر. عندما وصلنا إلى هناك وجدنا بعض عوائل من الرحّل، كانوا منشغلين برعي الماعز والغنم. الرحل كانوا يقصدون المصايف الجبلية، لكنهم حطوا الرحال هناك ليستريحوا.

قال عمي، لنذهب إليهم ونتحدث معهم.

عندما وصلنا، سألهم عمي: كانت هناك معزات صفر، كانت هناك معزات سود جميلات، ماذا حل بهن؟

أجاب شاب من الرحل عمي، يشار كمال:
ما تسأل عنه لم يبق إلا في كتب ياشار كمال، ولم يعد منها ما يرى.

ضحكنا نحن، فقال الشاب: لا تضحكوا، لو أنكم قرأتم لياشار كمال، ستعلمون أنه كانت ثم معزات صفر وسود. لكننا لم نعد نجدها الآن في أي مكان.

قال أحد صديقي للشاب: هذا هو ياشار كمال.

انطلق الشاب يجري صوب خيمة الشعر. ثم رأيناهم يخرجون رجلاً مسناً من الخيمة، لم يكن الرجل يقوى على المشي، وكانوا يسندونه على أكتافهم من الجانبين. كان أيضاً كفيفاً. قال الرجل المسن وهو يبكي:

ياشار كمال جاء إلى هنا!

قال: أنا مطلع على كل كتبك، جعلت أحد أحفادي يقرأ علي كتبك.

كان مشهداً يثير المشاعر عندنا جميعاً.

عانق عمي الرجل المسن.

ثم قال الرجل: أحمد الله أني عشت لأعانقك في نهاية حياتي.

سكت صادق وكأنه يريد أن يستريح، ثم عندما وجدني هادئاً أسمع له، واصل الحديث:

إلى جانبي، عند أبناء إخوة آخرون، لكني كنت الأقرب إلى عمي. هو من سماني، سماني باسم والده، اسمي صادق، كان يصحبني مذ كنت في الرابعة عشرة والخامسة عشرة، إلى إسطنبول لأكون مع. كانت رفقتنا تستمر شهراً أو شهراً ونصف الشهر في كل مرة. عندما كبرت، كنت أنا من يذهب إليه في إسطنبول.

كان حينها يقيم في منطقة (فلوريا) بإسطنبول، كنا نخرج ونتنزه. كنا نتمشى وكان دائماً يتحدث إلي. كان ينصت، وكان يسأل كثيراً عن الأهل والأقارب من قادرلي، عن معيشتهم وأحوالهم، ولا شك أنه كصديق صدوق للطبيعة كان يسأل عن الطبيعة. كان يسأل عن دارنا في مصايف تلك المنطقة.

كان يحمل هم أهالي قادرلي والمصايف.

وعن أفكار أهالي منطقة قادرلي وقرية (حميدة) وعن حمدوك (إنجه ممد)، روى شيئاً غاية في الإثارة:

كان أهالي المنطقة قد صدقوا أن حمدوك كان شخصية حقيقية، شخصاً ولد في هذه المنطقة وعاش فيها ثم تمرد. فمثلاً كان الناس يشيرون إلى مكان ويقولون:

هذا هو المكان الذي قاتل فيه حمدوك، ومن هنا أطلق النار وأصاب الأعداء.

قال صادق: جاء أحدهم يوماً وكان يقول إن والد يحتفظ بصدرية ولجام وحزام سرج حصان حمدوك، ويريد أن يبعث بها إلى يشار كمال.

أي أن اعتقادهم بأن حمدوك كان موجوداً كان من القوة بحيث لا يستطيع المرء أن يخبرهم بأن ياشار كمال هو من اختلق شخصية حمدوك.



مارسيل رايش - رانيسكي (1920 – 2013) كان كاتباً وناشراً ألمانياً وواحداً من المقيمين والنقاد الأشد تأثيراً في اللغة والآداب الألمانية.

لكن لماذا كان مؤثراً لهذه الدرجة؟ لأنه كان يعمل على النصوص العظيمة، كان يزيد من عظمة الكاتب ونصه في عيون الناس وفي المعترك. كان يعالج طلاسم النص، ويكشف خباياه، أو يسلط الضوء عليها ويتقاسم مع القارئ تمتعه بالنص، كان يريد للقارئ أن يبلغ ذاك المستوى من المتعة.
كان مارسيل رايش - رانيسكي من النقاد الذين يصنعون الكتاب أو ينمّون الكتاب ويعززون أعمدة الأدب الراسخة.

الناقد الذي يريد أن يسقط الكاتب أو يحطمه، عليه أن يتوقف عن الكتابة ويذهب ليستثمر قوته في ساحات القتال.

في هذا العالم المتشابك، في هذه الأيام المتخمة بالحروب والكراهية والمشحونة بصراعات البشر التي لا حدود لها ولا نفع فيها، بدلاً من أن نفرح بأنه لا يزال ثم أناس يجلسون ويكتبون، يتألمون، ويؤلفون لنا الروايات والقصص والقصائد، من المفجع أن يكون هناك ناقد يكسرهم بفقرتين رخيصتين.

أنظر إلى المأساة، يأتي أحدهم ويقجم موسيقى تحرك المشاعر وتسكرنا، ثم بدلاً عن الشكر والامتنان ننبري لمهاجمته هو وأعماله. هذا ليس من عمل الإنسان الكاتب والمقيم والناقد، فعلى الناقد أن يقدم لنا الجمال والمتعة اللتين لا نراهما ولا نشعر بهما. كذلك فإن لي الأذرع والازدراء والأمور المنبوذة، تدفع هذا النوع من النقاد إلى الإفلاس وتلطخ أسماءهم.

تصور غابة مزدانة بالألوان كثيفة، هي غابة (شيركو بيكَسْ) الشعرية، مر بجانبها كثيرون، وخاض فيها كثيرون، ولمزها كثيرون بل قالوا عنها ما يسيء ويغيب، لكن أين كل تلك الأصوات وأين لمزها وازدراؤها؟

وماذا عن غابة شيركو بيكَسْ؟

غابة شيركو بيكَسْ الشعرية واحد من أكثر أجهزة تنفس الشعر واللغة الكوديين حيوية.

من المهم إن عجز الناقد والمقيم أن يكون مثل مارسيل رايش-رانيسكي ويقدم أعمالاً جليلة في مجال النقد والتقييم، فليكن كما الرحّل، الرحّل العاشقين لياشار كمال، ويعرف مثلهم قيمة النص والكتابة والأدب والفن.

 

 

 

روداو

Top