كيف نتخلص من بعض الكتب؟
من بين أسباب صناعة كتاب «الأغاني» أن مؤلفه أبو الفرج الأصفهاني كان يقضي حياته مرتحلاً بين الديار، ومكتبته تنتقل معه محملة على ظهور الإبل، وصار عدد هذه الدواب يزيد سنة بعد سنة، لأن الكتب تكثر، وفكر الرجل في أن يختصر هذا الكم من المراجع بمؤلفٍ واحدٍ يحمله بين متاعه فوق راحِلته، فجاء كتابه «الأغاني» جامعاً وشاملاً لمعظم أدب عصره. هل يستطيعُ أحدُنا اليومَ اختصار مكتبته في سِفْرٍ واحدٍ؟ الجواب هو استحالة الأمر، ولا يعود السبب إلى تفوق زماننا في الرقش والنقش والخط على أيام الأصفهاني، ولكنْ، لأن صناعة الكتاب صارت تنشطُ يومياً، فهو سِلعة حالها مثل حال علبة السجائر والسيارة وقُرص الدواء المهدئ، لا يوجد في بال صانِعيه الحاجة والضرورة والمنفعة، بالإضافة إلى ازدياد عدد الداخلين إلى حلبة الأدب دون أي عدة للنزال، واختلط الحابل منهم مع غير النابل وصاحب السهام، وعمت الفوضى في النتيجة إلى أن عاف النظارة المكان، وتركه البعض منهم دون رجعة. إن نظرة منا إلى المكتبات المليئة في السوق رفوفها بالكتب، والخالية في الوقت نفسه من الزائرين، ترفع لنا هذه الفكرة احتمال مجيء يوم يفوق فيه المؤلفون عددَ القراء، فإذا علمنا أن كل ورقة مطبوعة تكلف الطبيعة بضعة من لحاء الشجر، وعِطر ولون زهرتها، تبين لنا أننا نضاعف الكتب، بأن نضع الأسوَد على الأبيض بلا مبالاة، ونستنزف ونُبيد غير مكترثين اللون الأخضر من حياتنا، وهو مصدر وجودنا الذي لا بديل له، يمدنا بالطاقة اللازمة للحركة والقدرة على البقاء.
إن الطبيعة أجمل وأثمن بكثير من الكتب القبيحة بمحتواها غير الفني وغير الأدبي وغير الإنساني، وكان الشاعر الراحل سامي مهدي، يقوم بتشذيب مكتبته في فصل الخريف، رامياً في سلة المهملات المؤلفات الهشة التي لا تصمد مع قسوة الزمن، لأنها تحتوي على ضباب من الكلام لا غير، بالإضافة إلى المؤلفات التي يراها لا تتوافق مع ما بات يريده ويفهمه ويرغب فيه.
«كيف تخلصتُ من بعض كتبي» هو عنوان فصل مقالٍ طويل لأورهان باموق، الروائي التركي صاحب «البيت الصامت» و«اسمي أحمر» و«متحف البراءة». لا يُبِين باموق في هذا المقال عن سعادته بتنقية مكتبته من الهُراء الذي يعده أصحابه أدباً، «إنما معرفة أن هناك وقتاً أخذتُ فيه هذا الكتاب بجدية كافية حتى إنني دفعتُ فيه نقوداً، واحتفظتُ به على رف من رفوف مكتبتي لسنوات، بل وقرأتُ بعضه. إنني لستُ خجلاً من الكتاب في حد ذاته، إنني خجل من أنني أوليته بعض الأهمية في وقت من الأوقات». ثم يقرر الروائي التركي، الذي أحتفظُ له في مكتبتي برف خاص، التخلص «بوعي تام» من 250 كتاباً من فوق رفوف مكتبته، وكان يؤدي الأمر «مثل سلطان يسير بين حشد من العبيد، يختار منهم الأفراد الذين سيتم جلدهم، مثل رأسمالي يشير إلى الخدم الذين سوف يتم التخلص منهم». أنا متأكد أن أحداً منا سوف يشعر بسعادة بالغة وهو يختار الكتب التي تبقى وتلك التي ستزول، وأنهى باموق عمله الجريء والجليل هذا «بسرعة وبلا إبطاء».
عن بورخيس عن مارك توين عن أحد معلميه قال: «المكتبة الجيدة يمكن أن تبدأ بفكرة بسيطة هي ترك مؤلفات جين أوستن خارجها. كما أن أي مكتبة حتى إذا لم تحتوِ على أي كتب أخرى، فستظل مكتبة جيدة لأن كتب جين أوستن ليست فيها». وبالنسبة إليّ، أنظر إلى مكتبتي بزهْو حقيقي لأنها لا تضم أسماء الكثير من الأدباء العراقيين والعرب، كما أن أي مكتبة حتى إذا لم تحتوِ على أي كتب أخرى، فستظل مكتبة عظيمة لأن كتب هؤلاء ليست فيها.
«أحياناً في الليل - فكر ذات مرة برغوث - حين لا يمنعني الأرق من النوم مثل الآن، أقوم بالتوقف عن القراءة، مفكراً في مهنتي ككاتب ناظراً إلى السقف مطولاً، متصوراً للحظات قصيرة أنني، أو أستطيع أن أكون، إذا ما آثرتُ العمل منذ الصباح، مثل كافكا (بالطبع من دون حياته البائسة) أو مثل سرفانتس (من دون عائق الفقر) أو مثل سويفت (من دون التهديد بالجنون) أو مثل جويس (من دون حياته المليئة بالعمل من أجل أن يعيش بكرامة) أو مثل غوته (من دون قدره المحزن في كسب عيشه في القصر) أو مثل ثوريو (رغم لا شيء) أو مثل سور خوانا (رغم كل شيء)؛ غير مجهول الاسم أبداً، حائزاً على المجد الدنيوي ذاته الذي حققه هؤلاء الأدباء جميعاً».
المقطع هو النص الكامل لقصة قصيرة للكاتب أوغوستو مونتيروسو، عنوانها «بين قوسين»، والقصة واضحة ولا تحتاج إلى أي تعليق أو شرح... إن بعض الكتاب يريد أن يكون عبقرياً دون أن يمتلك سر هذه العبقرية، وعندما يؤلف أحد هؤلاء كتاباً، فإن مصيره، مثلما يقول عنه الفيلسوف مدني صالح، هو أن يكون للاستعمال غير المعرفي، كأن يكون دكة للجلوس عليه، ثم يُرمى إلى قارعة الطريق.
عن الجاحظ عن إبراهيم بن سيار النظام البصري عن الخليل بن أحمد الفراهيدي عن أحد الحكماء قال: «لا يوجد عمل أسوأ من امتهان تأليف الأدب السيئ». هل كان أبو عثمان يقاسي من أنصاف أرباع الموهوبين في زمانه؟!
إن الأدب العظيم بين مثل الحلال من الحرام، والنبيذ الجيد لا يحتاج إلى إعلان، والفن كذلك، كما أن النقد الأدبي لا يحتاج إلى كاف ولام، وشين وزاء، وتنظير وتحليل وتفسير، فأهل البحر يعرفون الدرة من أول نظرة، وتستطيع أن تقرأ ألف رواية مما يُكتب في هذه السنين في يوم واحد، وأكثر من مليون قصة فاشلة، لأن الصفحة الواحدة أو السطر الأول والاثنين والثلاثة تكفي الفاحص الناقد، ولعله اكتفى بالعنوان وحده، أو بنظرة إلى غلاف الكتاب، فالرائج في سوق الحبر الآن الأدب السيئ مما تأتينا به العقول والأفئدة تافهة الطعم والوزن في ميزان العلم والمعرفة. ولهذا صار الأدب بضاعة كاسدة لا يُغامر بالمتاجرة فيها أحد خشية الإملاق والفقر، ولا يعود السبب في هذا الافتراء الباطل إلى النقد، بل إلى مزيفيه، والعمْلة الرديئة تطرد العمْلة الجيدة من السوق.
إن تقدم الكاتب يعتمد بدرجة كبيرة على قراءة الكتب الجيدة، وهذا يقرب إلى ما قالته العرب من أننا نكتب مثلما نحفظ، ونحفظ عن ظهر قلب الأدب الذي سوف نقول مثله، لأننا قرأناه بحب غالب النسيان وبقي ناصعاً مثلما وقعت عليه العين أول مرة. يحدثُ أني أجد نفسي بمعية كتاب اقتنيته أو أهدي لي من تلك التي لا تهواها نفسي، وأسرع عندها بالتخلص منه بأن أضعه عند أقرب رصيف، كأني أترك زجاجة عصير فاسدة المحتوى. أن تُحيط نفسك بكتبٍ أثيرةٍ لديك يعني أنك تعيش في جو من الإبداع الدائم، وسوف ينتقل إليك حتماً بواسطة أحد قوانين الفيزياء أو الكيمياء؛ التوصيل أو الحث أو الخلط والمزج والاتحاد. من يدري، فربما صحت في هذا الموضع نظرية الحلول في كتب العقائد الصوفية، وكان الصوفيون يؤمنون بإمكانية حلول الأشخاص في بعضهم البعض «كحلول ماء الورد في الورد»، على حد تعبير الإمام الجرجاني.
الشرق الاوسط