• Wednesday, 17 July 2024
logo

الإبداع من داخل الرقابة

الإبداع من داخل الرقابة

مما يلفت انتباه متلقي أشكال وأساليب الفنانين المعاصرين، الممتدة من اللوحة إلى المنحوتة إلى فن الفيديو والتجهيز والفوتوغرافيا، الرهان على ما يمكن تسميته «تورية بصرية» (إذا استعملنا المفهوم البلاغي القديم)، لمواجهة أشكال المصادرة والمنع وتقييد حرية التعبير. والبحث في صيغ إنتاج الأثر في تشكيلات صورية لها «ما بعدها». وبهذا لم يعد ثمة كنه للشيء إلا في أبعاده المنتجة للمعنى، لضرورات تبليغية من جهة، وجمالية من جهة ثانية. في هذا السياق يجدر التذكير بأنه في سنة 1937، بعد أربع سنوات من محرقة الكتب ببرلين، نظم هتلر ما سُمي معرض «الفن المنحط»، بوصفه النقيض الفني لمعرض الفن الألماني الرسمي، بجمع أعظم الأسماء في الفن، مع التركيز على أعمال الرسامين اليهود، التي أُبرزت بما هي مجرد «قمامة». في الآن ذاته الذي لم تستطع فيه إلا قلة من الأعمال الفنية للمقاومة أن ترى النور، من مثل معرض كاندينسكي سنة 1942 في باريس. أما في الاتحاد السوفياتي السابق، فسيكون الرسام ماليفيتش أحد أكباش فداء القبضة الستالينية، إذ تعرض للاضطهاد والسجن بسبب اختياره للتجريد الذي بدا غير متوافق مع خط سياسي موجه نحو الإنتاج المادي.
ويذهب الاعتقاد إلى أن السلوك الرقابي كان القاعدة الأساس لإعادة النظر في مقومات التبليغ والتكوين الجمالي؛ في التبليغ بالنظر إلى مواجهة الفنان المعاصر عدداً من المحظورات المتصلة بالعقائد والسلط السياسية والمواضعات الاجتماعية، من وجهة نظر معارضة وهجائية لا تخلو من ملمح فضائحي صادم أحياناً. وفي التكوين الجمالي اعتباراً لمسعى الفنان المعاصر إلى ابتداع مساحات تركيب مفهومي مولد للتأويلات الذهنية المتفاوتة العمق. والمحصلة أن الضرورتين التبليغية والجمالية تنهضان معاً على قاعدة مواجهة ومراوغة خطابية. ومن ثم سواء تعلق الأمر بالرقابة الدينية أو السياسية أو برقابة الرأي العام أو الرقابة الذاتية، فإنها جميعاً تبقى مشروطة بتغير المعايير وزوايا النظر. وهكذا يبدو أنه إذا ظل التجاوز، بالنسبة للعبقرية الفنية، «ضرورة داخلية» (إذا استخدمنا تعبير كاندينسكي)، فإن هذا الفعل دائماً ما يرتبط بشرط تاريخي محدد، يسعى الفنان إلى تخطيه، ثم يفسح المجال، بعد ذلك، لمعيار مستجد، يكون بدوره موضوع تجاوز فني لاحق.
ولعل من سمات هذا التجاوز، التبليغي والجمالي، في التجارب الفنية المعاصرة، تخطي المهارة إلى امتلاك خيال بصري يصطنع للصورة «بعداً ما»، خالباً وإشكالياً وصادماً في آن. لا يهم أن يكون الفنان حاذقاً في صناعة «الشيء» المعروض، الذي يمثل الكشف المفهومي والمعنوي، البليغ والمدهش، فالأهم هو تخطيط المفهوم وهندسة الفكرة، والقدرة على تمثّل صيغتها الحسية. الأمر هنا شبيه بما يمتلكه المهندس المعماري (الاستثنائي) من بصيرة جمالية يوكل تنفيذها إلى فريق من المساعدين والرسامين والتقنيين، ممن يبدون أكثر امتلاكاً لحرفية الإنجاز التطبيقي على الورق للعمل المفكر فيه. ويمكن تخيل عدد لا نهائي من الأسماء المغمورة لحرفيين لن يكون بمقدورهم يوماً أن يوقعوا «توريات بصرية» ولو أنهم سهروا على تنفيذها، من الأشكال البدائية إلى الصيغ المقدمة للعرض. وفي تعبير للباحث الفرنسي «مارك جيمينيز» عن الجوهر النهضوي للفن، الذي يباعد بينه وبين المثول بما هو تفكير في صياغة الأعمال المتقنة ذات الكنه الاستعمالي، يرى أن: «التصوير والنحت ليسا ممارستين تستندان فقط إلى الخبرة، وإلى مهنة، وإلى مهارة الحرفي، وإنما يتحولان إلى نشاط ثقافي يضع قيد العمل عدداً من الملكات والمؤهلات، التي تسمح للفنان بتخطي رتبته كحرفي بسيط، لكي يوافق صورة النهضوي ذي النزعة الإنسانية».
يريد الفنان بطريقته الخاصة، عندما لا يكون منشغلاً بالتواؤم مع المواضعات لضمان مكانه في دائرة المعارض والمتاحف، أن يتعارض مع قوة الثقافة المعيارية، وأن يشكل ما بعد مادة العمل الفني، أي وعي وإدراك معاصريه، وهكذا يجد نفسه باستمرار مضطراً إلى اختبار الخطوط الدفاعية للمجتمع فيما يتعلق بموضوعات «الأعراق»، و«الحدود»، و«الجسد» و«الهجرة» و«المعتقدات»... بيد أنه لسوء الحظ، بمجرد أن يتسبب العمل في إثارة ضجة ما، حتى تتم إعادته إلى الحقل الجمالي، ويتم الزعم أنه ما كان يجب أن يخرج للعموم أبداً. وهكذا فإن العمل «يشحن» بهالة جمالية فقط لأنه أثار رد فعل من صنف مغاير.
وتدريجياً، ستبدو الاختراقات الفنية المعاصرة في مواجهة رقابة النسق الجمالي، التي يمارسها أكاديميون ونقاد وقيِّمو معارض، ومؤسسات أروقة ومتاحف، تتشكل من جراء تواترها مواضعات لهندسة الفكرة وتخطيط المفهوم وتسييج «ما بعده»؛ في أفق يسمح بالحديث عن تجاوز رقابي يناظر التجاوز الفني، ويتيح لمجتمع الفن المعاصر ومجاله التداولي أن يحل محل المجتمع السياسي والديني في رسم نطاق المحظورات. إنها الذريعة التي جعلت الرقابة الكابحة لـ«الما بعد»، ولأشكال التورية البصرية، تتحول إلى موضوع للبحث والتفكير والتشكيل الفني؛ منذ ملصق «المشغل العمومي» المتصل بشعار: «منع المنع» في الثروة الطلابية لسنة 1968 بباريس، وحتى آخر أعمال فنانين محاصرين برقابات مضاعفة من قبيل منحوتة: «الهاتف الفارسي» للإيراني بيرفيز تانافولي.
في عمل بعنوان «تحت المظلة» للفنانة التونسية نادية الجلاصي، تتخايل صورة رجل وامرأة في حلة الخروج يقفان في وضع مرح متجاورَين، متشابكَي الذراعين، لكن تفاصيل الوجه والقوام واللباس تطمسها، جميعاً، واجهة شفافة من مربعات تُكوّن سلاسلها دوائر صغيرة جهة الجسدين، وتمتد على مساحة اللوحة. وفوق الواجهة تخطط الفنانة صورة رجلين مرافقين (وحارسين)، في بدلة حفلات رسمية، يحملان مظلتين لحماية الرفيقين من الشمس أو المطر، يتجاور فيها الأزرق والأحمر والأسود والبياض. يَمْثُلُ كل شيء مكتملاً في كتلتهما الجسدية إلا الوجه الممحو، المتجلي بوصفه صفحة بيضاء. يأخذنا التكوين الفني هنا إلى المفهوم السلطوي للرقابة، الذي يفيد بأنها حماية وتحصين، وتتم بقفازات حريرية، غير مدركة في الغالب الأعم، وأنها تتشكل تدريجياً دون إرادة الأفراد، كما أنها جوهر خفي لا ملامح له، هي دوماً في الظل ولا تطفو على السطح، وإن شكلت بعد ذلك ظلالاً طاغية، تتخذ أقنعة متغايرة، في السياسة والأخلاق والقواعد الأكاديمية والمواضعات الجمالية.
ولعل مما يسترعي الانتباه لدى فنانين عرب معاصرين، من مثل يطو برادة، وعادل عبد الصمد، وفؤاد حمدي، وإسماعيل الرفاعي، وعباس يوسف، وغيرهم، أن الوعي بالرقابة وتحولها إلى موضوع بات مدخلاً إلى إنتاج خطاب بصري ذي مظهر نقدي، له بلاغته في إعادة كشف مفارقات السلوك المصادر للحرية، دون الاكتفاء بإنتاج صور الاحتجاج والرفض (مثلما قد نجد في فن الشارع)، وسرعان ما ستكون المواجهة الفنية عبر الترحل بين التقنيات والأساليب، وتحويلها إلى سؤال جمالي عابر للثقافات والمجتمعات والنظم، إنه الدرس الذي تعكسه دوماً مهارات تحويل الخصم إلى موضوع للتعرية والدراسة، وإعادة الصوغ.
يتساءل الفرنسي بنيامين بيانسييتو في هذا الصدد: «هل يمكننا حقاً أن نبدع من داخل الرقابة؟ أو بشكل أعم، مع احتمال فرض الرقابة كتهديد؟ لقد شرع عديد من الفنانين عمداً في الاشتغال وهم يعلمون أن العمل النهائي لن يفلت من التدقيق والمنع... لكن يمكننا أيضاً أن ننظر في المقابل لفنانين يدفعون عملهم طوعاً إلى ما وراء الحدود المعروفة للقانون والأخلاق، حتى داخل الثقافات الديمقراطية؛ إنه خيار الصدمة، والتجاوز، وحتى الاستفزاز لزعزعة النظام القائم، ولإيقاظ الضمائر اللامبالية».

 

 

الشرق الاوسط

Top