ما بعد الانسحاب.. ما قبل صلاة الجمعة
مازن صاحب
في كتابين، أوضح المرحوم الدكتور فالح عبد الجبار نموذج الحراك الديني - المجتمعي - السياسي في العراق، الأول جاء بعنوان "العمامة والأفندي" والثاني بعنوان "اللادولة"، أي مقاربة فكرية تطبيقية لواقع العراق اليوم مع ما ورد في هذين الكتابين تؤكد على جملة من الحقائق المطلوب التوقف عندها، فحالة انسحاب التيار الصدري التي قد تبدو للبعض نوعاً من المفاجأة الشعبية قبل أن تكون سياسية ضمن سياق تعامل الجمهور مع هكذا قرار مقابل النقاط عن أسباب الانسحاب التي سطرها وزير السيد مقتدى الصدر، تؤكد أن مدنية الدولة ضمن الفقرة الثانية من الدستور العراقي لعام 2005 التي ربطت أصل التشريعات في عراق اليوم ما بين ثوابت الإسلام بوصفه "دين الدولة الرسمي، وهو مصدر أساس للتشريع"، وعليه لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام.
كذلك لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية كما لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور، هذا النص الذي أخذ وقتاً كبيراً من النقاشات بين أعضاء لجنة كتابة الدستور وانتهى إلى هذه الصياغة، بما يؤكد على حقيقة أن الدولة العراقية دستورياً تعترف بثوابت الدين الإسلامي مصدراً للتشريعات وعلى خط مواز تعترف بمبادئ الديمقراطية والحقوق والحريات الأساسية في هذا الدستور، الأمر الذي غيّب كلياً عن إدارة السلطة في البلد في تقديم أحزاب الإسلام السياسي بمفهومي "البيعة والتقليد" ثوابت الدين الإسلامي على مبادئ الديمقراطية والحريات الأساسية الدستورية، فانتقل النظام السياسي من حالة الصراع ما بين "العمامة والأفندي" إلى حالة "اللادولة". السؤال كيف يمكن تصور سيناريوهات التعاطي مع هذا الواقع خلال المرحلة المقبلة؟
الإجابة على هذا السؤال في إطار معطيات التحليل الواسع لكتاب العمامة والأفندي، تبدو قد غادرت وقائع هذا الكتاب إلى نموذج الكتاب الآخر "اللادولة" وفي هذا السياق يمكن طرح الآتي:
أولاً: الثقل الشعبي الأكبر في عراق اليوم لا يتعلق بالنخب والكفاءات الأكاديمية والمثقفة التي تمارس نقد "اللادولة" على مواقع التواصل الاجتماعي، بل تتعلق بقدرات "القبيلة" التي تحولت إلى نموذج "القبيلة السياسية" الأكثر تأثيراً على الواقع الانتخابي، وهناك أكثر من ازدواجية تظهر في تعامل "القبيلة السياسية" مع وقائع الأحداث وتطوراتها، فالكثير من الزعامات التقليدية باتت خارج سياق التأثير الفعلي وانتقل ذلك إلى فروع من العشائر التي تمسك السلاح المنفلت خارج سيطرة الدولة، وتمارس أنواعاً من التفاعل مع الأزمات السياسية المتوالدة بسب مفاسد المحاصصة، ما نسمع عن استخدام طائرات الدرون والأسلحة المتوسطة وربما الثقيلة ما يؤكد وجود حالة "اللادولة".
ثانياً: في صراع "العمامة والأفندي" انتصر المهاجرون من الريف إلى المدينة على الأفندية في عقر دارهم، هكذا تقدمت مظاهر التمويل السياسي لهؤلاء المهاجرين في "عشيرة الأحزاب" ومنها إلى "عشيرة اللادولة" وظهرت حركات بعناوين مختلفة لمجموعات مسلحة سرعان ما انتقلت إلى مجلس النواب تجاوزاً على أصل الفقرتين الثانية والثالثة من المادة الثانية لأصل التشريعات في العراق، فلا مبادئ ديمقراطية أسست ولا احترمت الحريات الأساسية في الدستور.
ثالثاً: ينطلق أصل الحراك الشعبي في التيار الصدري من ذلك الإرث الذي تركه السيد محمد صادق الصدر رحمه الله وتحمله السيد مقتدى الصدر بما أثقل ظهره، والفقرات التي برر فيها وزيره صالح العراقي أسباب الانسحاب واضحة وصريحة، والسعي لتهميش هذا التيار في حراك "اللادولة" مقابل العودة إلى تأصيل حالة دعم بناء دولة بحكومة أغلبية وطنية خارج مفاسد المحاصصة يواجه تطبيقات هذا الصراع السياسي – المجتمعي، فهناك ازدواجية غير معلنة في مبدأ استخدام السلطة لخدمة الشعب مقابل مفاسد المحاصصة لم يتمكن السيد مقتدى الصدر أو تياره السياسي تأصيلها دستورياً بالعودة إلى الفقرتين الثانية والثالثة فلا مبادئ ديمقراطية اعتمدت ولا حريات في حقوق وواجبات انتظمت، حتى عندما تحالفت قوى مدنية لعل الحزب الشيوعي أبرزها مع التيار الصدري، وكانت الغلبة للتيارعلى الجميع.
رابعاً: في المقابل، ما زال المال السياسي والدعم من قوى "اللادولة" التي تحافظ على وجود "أشباح الدولة" في مؤسسات تدار من المقاعد الخلفية توظف "القبيلة السياسية" في ديمومة وجودها الفاعل والمؤثر عراقياً بما في ذلك السلاح المنفلت والتهديد للسلم الأهلي، فيما لم يستطع حتى أفندية الإسلام السياسي عراقياً الحد من هذه الازدواجية في التعامل مع تطورات الأحداث ما بعد تحرير ثلث الأراضي العراقية من عصابات داعش، هكذا ما زالت قضايا النازحين وإعادة إعمار المدن المحررة من القضايا العالقة، وفي ذات السياق استمرت هذه الازدواجية في التعامل مع القضايا المعلقة ما بين حكومة إقليم كردستان والحكومة الاتحادية ولم تنجح أي حركة سياسية اعتماد مشروعية "عراق واحد وطن الجميع" في ترجمة ما ورد في المادة الثانية من الدستور العراقي، لعل أبسط مثال على ذلك إضافة خبراء في الديمقراطية وحقوق الانسان لخبراء المحكمة الاتحادية، محل الخلاف الدائم على تشريع قانون هذه المحكمة.
خامساً: ما بعد انسحاب التيار الصدري، والدعوات لرفع تجميد جيش المهدي، والدعوة لصلاة جمعة تستذكر أول صلاة جمعة واختيار مدنية الصدر ذات الكثافة السكانية من أصول ريفية مكاناً لها ولكن داخل العاصمة بغداد، يظهر النزعة لتجديد منهج التيار الصدري وفق قواعد وضعها الصدر الأب رحمه الله، وهذا بحد ذاته تطور لافت في منهجية عمل التيار الصدري، أعتقد أن السيد مقتدى الصدر يريد من ورائه الانتهاء من بعض الفقرات التي أشار اليها وزيره عن أسباب الانسحاب في إعادة تنظيم التيار الصدري كله، وكان أبرز ما كتبه في بحث الخارج لنيل درجة الاجتهاد التي ما زالت معلقة بين مكاتب كبار المراجع الشيعة، هذا يتطلب من وجهة نظر متواضعة فهم قيادات هذا التيار لتطبيقات التنمية السياسية، وحصول ذلك يمكن أن يعيد جدولة حسابات بقية القوى السياسية، لا سيما الإطار التنسيقي، في أهمية أن تكون الحكومة المقبلة أيضاً مؤقتة لإعادة تأهيل قانوني الانتخابات والأحزاب، لكن تنافر الشخصنة في التعامل ما بين التيار الصدري وزعامته مع زعامة الإطار التنسيقي، ربما، أقول ربما ستجبر الطرفين على تقديم تنازلات جوهرية في سياقات إعادة تنظيم قانوني الأحزاب والانتخابات وإيجاد بدائل موضوعية عن نظام مفاسد المحاصصة، والانتهاء من حالة "اللادولة" إلى دعم بناء الدولة بدلاً من التخويف بأشباحها في "قبيلة الدولة" من خلال السلاح المنفلت والمال السياسي.
في ضوء كل ما تقدم، ننتظر صلاة الجمعة المقررة في الخامس عشر من تموز الجاري، ربما نشهد عودة إرث الصدر الأب واضحاً في الخروج من مأزق اللادولة إلى غير ذلك بما فيه الفوضى غير الخلاقة، التي تهدد السلم الأهلي، ما يخشاه الكل، لكن حدوثه قد يصبح ضرورة ملحة للانتهاء من هذه العملية السياسية وصولاً إلى نموذج جديد خلاق يحترم الدستور في جميع فقرات المادة الثانية بما يبلور حكومة خدمة مدنية بأغلبية وطنية تعتمد مشروعية "عراق واحد وطن الجميع"، لعل وعسى... ويبقى من القول لله في خلقه شؤون!!
روداو