"الكورد ليسوا ملائكة "
علي تمي
بهذه الجملة، خاطب الرئيس الأميركي السابق "دونالد ترمب" الكورد بعد انتهاء مهمة قواته القتالية في سوريا والإعلان عن الانتصار على تنظيم داعش في بلدة "الباغوز" بريف دير الزور في عام 2017.
ترمب كان صادقاً فيما قاله، وصريحاً بعباراته، لأنه وجد سلاحاً حاداً وفتاكاً ووقوداً في معركته ضد التطرف (الإسلامي) وعلى طبق من ذهب لتغذية مشاريعه وحروبه العبثية في الشرق الأوسط.
الولايات المتحدة الأميركية ومنذ دخولها العسكري في سوريا عام 2014 وضعت لنفسها استراتيجية ألا وهي استدراج المتطرفين بمختلف انتماءاتهم وفي كل أصقاع العالم إلى الميدان السوري وتصفيتهم بشكل جماعي، والتخلص من شرهم وتغلغلهم في المجتمع الأوروبي بواسطة القوى المحلية التي تشكلت على يد وكالة الاستخبارات الأميركية في شرق الفرات والمعروفة اليوم بقوات سوريا الديمقراطية "قسد" التي تأسست في أكتوبر 2015 في الحسكة، وبنفس الوقت تركت الشعب السوري تحت رحمة القصف الروسي وبراميل النظام.
الجميع استفاد من الحرب السورية، فمنهم من استغلها للإطاحة بأكبر منظمات إرهابية، ومنهم من دفع بهذه البلاد لتكون دولة مفتتة وفاشلة وضرب بنيتها الاقتصادية والتحتية وفرض التهجير الجماعي على سكانها من أراضيهم وديارهم، وجعلها مسرحاً للتنظيمات الإرهابية الدولية، وميداناً لتصفية الحسابات بين القوى الإقليمية والدولية.
الحقيقة المرّة
في عام 2017 وبناءً على دعوة رسمية من المبعوث الأميركي السابق في إدارة ترمب (جيمس جيفري)، التقينا به كممثلين عن أهالي كوباني في مدينة غازي عنتاب التركية، اللقاء الذي كان الأول من نوعه بين القوى السياسية الكوردية في سوريا وبين الإدارة الأميركية السابقة، كنت أحد المدعوّين إليه ودام أكثر من ساعة ونصف ساعة، كان هدف جيفري من اللقاء هو إيصال رسالة قوية إلى الكورد في سوريا مفادها أن علاقة واشنطن مع حزب الاتحاد الديمقراطي وقسد وبقية أدواتها هي علاقة مرتبطة بمحاربة داعش فقط ولا وعود سياسية لهذا الحزب أو ذاك، لا اتفاق سياسي مع قسد، حل القضية الكوردية في سوريا سيتم حصراُ من خلال دستور يتفق عليه السوريون جميعاً، الرجل كان صريحاً وواضحاً في كلامه وجمله وحتى في أدائه. خرجنا من اللقاء، ولم نتمكن حتى الآن من قراءة ما بين السطور والرسائل الموجهة لنا بشكل مباشر، وفشلنا في إقناع شريحة واسعة من أبناء شعبنا وحثهم على عدم الهرولة خلف الشعارات والبروبكندا التي يتم الترويج لها من قبل الماكينة الإعلامية لحزب العمال الكوردستاني الموجهة إلى المجتمع الكوردي ودغدغة عواطفهم وإغراقهم في وعود وأحلام يصعب تحقيقها أو تكهنها على الأقل في هذه المرحلة.
التآمر على القضية الكوردية في سوريا
تاريخياً، ومنذ أن تقاسمت الدول الأوروبية العظمى تركة الرجل المريض (الدولة العثمانية) في مطلع القرن الماضي، كانت سوريا الحالية من نصيب الإمبراطورية الفرنسية، فكان أول أعمالها في عام 1920 إسقاط "الملكية السورية" ومنذ ذلك الحين تحاول الدول الغربية الإطاحة بالدولة السورية من خلال تفتيتها وضرب وحدتها الجغرافية والسياسية والتغلغل داخل المجتمع على طريقة (فرق تسد).
وفي الوقت الحاضر، أصبحت القضية الكوردية في سوريا جزءاً من قضية وطنية بامتياز، حلّها سيكون في جنيف من خلال القرار 2254، هذا هو المعيار الأساسي الصحيح التي من الممكن تحقيقه والبناء عليه، إلا أن المشكلة الكبرى التي تعاني منها القوى السياسية الكوردية في سوريا، هي كونها نتاج مجتمع متخلف وبسيط يتغلب عليه الطابع العشائري المحافظ، ويعاني من الضعف في الرؤى السياسية والجرأة في الطرح وقراءة الوقائع والمعطيات بشكل مدروس وجيد، ويتأثر بالعوامل الخارجية والسياسة الدولية التي تحاول وعلى مدار التاريخ استغلال معاناتهم لتجنيدهم خدمة لمشاريعهم العبثية في المنطقة.
الكورد في سوريا، ومنذ انطلاق الثورة السورية وتحديداً ما بعد 2012 تسلقوا القطار الخاطئ، تسلقوا الشجرة ومن الصعب النزول منها اليوم، تم استغلال معاناتهم وترهيبهم بخطر تنظيم داعش، وفُرض عليهم خوض المعارك، وسلموا أمرهم لمنظومة وضعتهم في بازارات لا ناقة لنا فيها ولا جمل ولا حتى بقضيتنا الوطنية، تم استغلال معاناتنا في عفرين ضد مكونات المنطقة وزرع الحقد والكراهية بين أبناء الشعب الواحد من خلال مجزرة "عين دقنة" التي باتت اليوم تشكل وصمة عار على جبين الجميع، والمشاركة في حصار حلب حتى سقطت بيد النظام فضلاً عن التدخل في المناطق العربية وخاصة دير الزور والرقة والحسكة، وفرض أمر واقع على أهالي تلك المناطق بشكل مقصود بتوجيه من القوى الغربية بهدف تعميق الشرخ داخل المجتمع الواحد وبالتالي لتسهيل السيطرة على النفط لصالح النظام ومشروع التقسيم في سوريا، كل هذه الإجراءات الهمجية وضعتنا اليوم في مواجهة تحديات كبيرة، وباتت خطراً حقيقياً يهدد وجودنا وتاريخنا كشعب مسالم يعيش على أرضه التاريخية، كما ترك كل ذلك جرحاً عميقاً في مفاصل المجتمع والعرف العشائري السوري يصعب تضميده على الأقل في هذه المرحلة.
خلاصة القول:
الأميركيون والروس جاؤوا (عسكرياً) إلى سوريا ليس محبةً بهذا المكون أو ذاك، بل لأن مصالحهما الجيوسياسية تتطلب ذلك، ليتمددا في الشرق الأوسط ويسيطرا على مفاصل الطاقة فيها، كل التقديرات تشير إلى أن التواجد العسكري الدولي على أرض سوريا، هو جزء لا يتجزأ من "الحرب الباردة" غير المعلنة بين عمالقة الاقتصاد العالمي وخاصة بعد بروز دور الصين في المنظومة الاقتصادية العالمية، والتمدد العسكري الروسي في شبه جزيرة القرم والشرق الأوسط وجنوب أفريقيا.
ونتيجة لتشابك في العلاقات الدولية والإقليمية على الساحة السورية، فنحن ككورد سوريا، كنّا ضحايا لأجندات دولية في المنطقة وعلى مدار قرن من الزمن، ومصلحتنا الاستراتيجية اليوم، هي الوقوف مع الشعب السوري بكافة مكوناته وطوائفه بغض النظر عن الاختلاف السائد في الرؤى والتوجهات، ولكن المصيبة الكبرى هي وجود شريحة واسعة من أبناء المجتمع الكوردي سلكت الطريق الخاطئ، وترفض التراجع عن خطئها حتى هذه اللحظة والتخلي عن الأجندات التي تم إغراقهم فيها، وهذا هو بيت القصيد، والسؤال الذي بات يطرح نفسه: هل أخطأنا في الحسابات؟؟ الجواب نعم، أخطأنا في الكثير من المحطات لكن هذا لا يبرر أن نستمر فيه إلى مالا نهاية، ونهرول خلف أجندات لا مصلحة لنا فيها، الأميركيون لم ولن يكونوا يوماً عوناً لشعوب العالم ومعاناتهم، وضعونا في فوهة المدفع، وما حصل بالأمس في أفغانستان ومن قبلها في ليبيا، ومنذ عقدين من الزمن في العراق وتحديداً في إقليم كوردستان ولبنان واليوم في سوريا وأوكرانيا، بدلاً من أن يقوموا بوقف الحرب، يبادرون الى إنشاء المخيمات في البراري كما هو الحال في مخيم الهول في ريف الحسكة الذي تحول إلى أكبر معتقل في الشرق الأوسط واحتجاز الآلاف من الأطفال والنساء داخل هذه السجن، فضلاً عن دعم الجماعات العسكرية بالعتاد والسلاح لإدارة الأزمات بدلاً من حلها، فنحن جميعاً بحاجة إلى مراجعة شاملة لسياستنا وخطابنا وتوجهنا لأن قضيتنا في سوريا قضية إنسانية عادلة قبل ان تكون سياسية وغير قابلة للمساومة، كل جيوش العالم ستغادر سوريا عاجلاً أم أجلاً، بينما الشعوب لن تغادر بل ستبقى، ومن الأهمية إعادة هندسة العلاقة الثقافية والاجتماعية بين جميع المكونات من جديد، والعمل على وقف الصراع والتناحر الدائر في الساحة السورية، أو على الأقل عدم المشاركة في هذه الكارثة التي تستهدف البنية التحتية لمجتمعنا، حتى لا يبقى هذا التعايش من التحديات الكبيرة التي تواجهنا، بناءً على طبيعة الانقسامات الراهنة في المجتمع.
بالمحصلة، إن وجود التفاهم السياسي الشامل بين المكونات السورية، والذي من الممكن أن يقضي على نظرية التهميش التي زرعها حكم "البعث" في عقولنا طوال العقود الماضية، وضرورة قبول التنوع العرقي والقومي، وتوفير الضمانة للأقليات التي أصبحت من المتطلبات الأساسية لخفض مستويات انعدام الثقة العميقة بين الطوائف المجتمعية المختلفة، وضرورة الكف عن عسكرة المجتمع والتجييش الطائفي، والعمل على تهدئة الاضطرابات التي تعرضت لها الهياكل المجتمعية إلى جانب مقدار الثقة المفقودة في المجتمع المجزأ أصلاً نتيجة الأزمة الممتدة منذ أحد عشر عاماً والتي تسلط الضوء على الحاجة الماسة للوصول إلى حل شامل وديمقراطي في البلاد من خلال دستور حضاري يتوافق عليه السوريون، ويحقق العدالة والمساواة فضلاً عن الهندسة الاجتماعية والحكم الطائفي الذي كان سبباً فيما آلت إليها الأوضاع في البلاد، والعمل على وقف التغلغل الخارجي داخل المجتمع السوري برمته والذي تحاول القوى الدولية من خلاله وعلى مدار قرن من الزمن ضرب وحدته الجغرافية وقيمه المجتمعية، وحتى لا تطفو على السطح انقسامات ومشاريع جديدة نحن جميعاً بغنى عنها، وفي الختام لا بد من القول: عندما يقفز الكورد إلى السفينة الغارقة فمن الطبيعي أن يقال عنهم بأنهم ليسوا "ملائكة".
روداو