• Tuesday, 24 December 2024
logo

التهديدات التركية باجتياح شمال سوريا.. خفوتٌ بعد تسعير

التهديدات التركية باجتياح شمال سوريا.. خفوتٌ بعد تسعير

حسين عمر

 

مقدّمة

منذ اجتماع وزيري الخارجية الروسي سيرغي لافروف والتركي مولود تشاوش أوغلو، الأربعاء 8 حزيران، في العاصمة التركية أنقرة، خمدت حدّة التصريحات النارية الصادرة من كبار المسؤولين الأتراك، وعلى رأسهم الرئيس التركي أردوغان، بشأن عملية عسكرية تركية وشيكة على مناطق في شمال وشمال شرق سوريا. وقبل هذا الاجتماع، كانت رقعة المناطق المُستهدفة بالعملية التركية المزمعة قد تقلّصت في التصريحات التركية من كامل المنطقة الحدودية إلى تل رفعت ومنبج وتل تمر، بموجب تلميحات تشاوش أوغلو في أحد تصريحاته، لتنكمش بعد ذلك، إلى حدود تل رفعت ومنبج في تصريحٍ للرئيس التركي.

لا شكّ أنّ هذا الخفوت في سعير التصريحات التركية وهذا التقليص في مساحة المناطق المستهدفة غير مرتبطين برغبات ونوايا تركيا وإنّما بالمعادلات السياسية والعسكرية التي تحكم الشمال السوري ومواقف الدول المتواجدة على الأرض السورية.

الموقف الأميركي

بدا واضحاً، منذ إعلان الرئيس التركي عزم بلاده شنّ عملية جديدة في شمال سوريا، أنّ أميركا لم تكتفِ بالتصريحات الدبلوماسية المنوّهة بقلقها من أيّ عملية وتأثيراتها على جهود مكافحة داعش، وإنّما أبلغت تركيا صراحة برفض أيّ مسٍّ بالمناطق التي تتواجد فيها قوات التحالف الدولي، وبحساسيتها من أيّ عملية ضدّ مناطق حرّرتها قوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي معاً (مثل كوباني، عين عيسى، منبج). وزيارة وفد أميركي موسّع لمنبج (الاثنين، 6 حزيران) واللقاء بالمجلسين العسكري والمدني فيها قد تكون رسالة لإبداء التزامها حيال المنطقة التي حرّرتها القوات المشتركة بعد عملية صعبة وبالغة التكلفة.

وبمعزل عن هذه المناطق، يبدو أن أميركا غير راضية عن عملية عسكرية تركية جديدة تستهدف حلفاءها، الأمر الذي من شأنه إثارة زوبعة جديدة حول السياسة الأميركية في سوريا وعدم التزامها بحماية حلفائها وتعريض جهودها في مكافحة الإرهاب للخطر. كما أنّ الابتزاز التركي بشأن ربط موقفها من قبول عضوية السويد وفنلندا في حلف الناتو، من ضمن مطالب أخرى، بتنازلات من أميركا في سوريا أو عدم قبول عضويتهما بتنازلات من روسيا في سوريا، قد لا تكون مجدية؛ فقرار ضمّ هاتين الدولتين هو قرار أميركي حاسم يتعلّق بأهمية موقع ودور هاتين الدولتين بالنسبة إلى الحلف، بعد معادلات الصراع الجديدة التي أفرزتها الحرب الروسية - الأوكرانية، بما لا يقلّ أهمية عن موقع ودور تركيا في الحلف ذاته.

وربّما يكون من شأن إغضاب تركيا لأميركا بخصوص ملفّي سوريا وعضوية الدولتين الاسكندنافيتين في الناتو، إثارة ردود فعل أميركية تنعكس على الوضع الداخلي في تركيا، وبما يتجاوز البعد الاقتصادي.

الموقف الروسي

يبدو أنّ تركيا لم تحصل من روسيا، خلال لقاء وزيري خارجية البلدين في أنقرة، على ما كانت تتمنّاه بشأن مطالبها في سوريا عموماً، وبشأن العملية العسكرية المزمعة خصوصاً. فورقة جبل الزاوية ومحيطه ورقة قوية في يد روسيا التي تُجاهر بأنّ تركيا لم تفِ بتعهداتها بشأن إخراج التنظيمات الإرهابية منها وتأمين الطريق الدولي بين حلب واللاذقية. ومن شأن أي عملية عسكرية (سورية - إيرانية، برضا أو بغض نظر روسيا) في المنطقة أن تُفقِد المعارضة السورية المسلّحة خطوطها الدفاعية الجبلية وانفتاح المناطق السهلية من محافظة إدلب وأطرافها أمام القوات السورية وحلفائها، الأمر الذي يهدّد بحركة نزوح جماعية من منطقة تضمّ قرابة أربعة ملايين، وفيها أكثر من ألف ومئتي مخيّم، نحو الأراضي التركية. وسيكون لهذا منعكسات في الداخل التركي الذي يشهد جدلاً وتوتراً شديدين بشأن اللاجئين السوريين، وسيُحبط مشروع أردوغان بإعادة اللاجئين السوريين.

تل رفعت

ثمّة خطأ شائع يتكرّر ذكره وهو أنّ مدينة تل رفعت وبعض ريفها والقرى الأخرى المحيطة بها، ومن ضمنها 12 قرية في منطقة شيراوا العفرينية، خاضعة لسيطرة القوات الكوردية. في الواقع، هذا ليس صحيحاً بالمطلق. فإلى جانب الإعلان الصريح من قبل قيادة قوات سوريا الديمقراطية أن ليست لديها أيّ قوات في هذه المنطقة، ليست هناك، في الواقع، أي تشكيلات عسكرية كوردية مستقلّة في المنطقة. والمقاتلون الكورد الذين انسحبوا من عفرين بعد احتلالها من قبل القوات التركية ومجموعات المعارضة الموالية لها، اندمجوا في القوات الحكومية السورية، بالزي العسكري السوري وتحت العلم السوري. كما أنّ المنطقة، من الناحية الإدارية والخدمية، تحت سيطرة الحكومة السورية؛ إذ أنّ الدوائر البلدية والخدمية والإدارية السورية الرسمية تعمل في المنطقة؛ كما أنّ القوى الأمنية السورية من شرطة واستخبارات تعمل في المنطقة. بالإضافة إلى قواعد القوات الروسية في منغ والوحشية وكشتعار وسواها. ثمّ أنّ مدينة تل رفعت وأريافها، استُعيدت من المعارضة السورية، في عام 2016، بفضل الطيران الحربي الروسي، وبمساهمة فعّالة من القوات السورية على الأرض، بالتنسيق مع قوات سوريا الديمقراطية آنذاك، ولم تستعدها القوات الكردية بمفردها.

الوجود والموقف الإيرانيان

في الحقيقة، الوجود الإيراني، عبر ذراعه حزب الله اللبناني، في شمال حلب، وخاصّة في بلدتي نبل والزهراء، سابقٌ لاندلاع الحرب السورية. لكنّ هذا الوجود اتّسع وتعزّز بقوات من حزب الله، بالإضافة إلى ميليشيات (الفاطميون) و(الزينبيون) وسواها في المنطقة، بحيث بات شمال حلب بالنسبة إلى إيران، كجنوب لبنان من حيث الأهمية. وأيّ عملية عسكرية تركية، برفقة الجماعات المسلّحة المتطرّفة مذهبياً للمعارضة السورية، تؤدّي إلى السيطرة على تل رفعت وبقية منطقة الشهباء، في شمال حلب، سوف تضع بلدتي نبل والزهراء، كمعقلين للقوات الإيرانية وميليشياتها، في مرمى مسلّحي المعارضة، بل ومحاصرتهما فعلياً، والوصول إلى أبواب حلب الشمالية والشمالية الغربية، التي بذلت روسيا وإيران والحكومة السورية جهوداً كبيرة لتطهيرها من مسلّحي المعارضة. كما أنّ من شأن ذلك سيطرة جماعات المعارضة على الطرق المؤدّية إلى حلب، ثاني أكبر مدن البلاد وعاصمتها الاقتصادية، وبالتالي تشكيل خطر جدّي عليها من جديد، بعد أن تمّ تطهيرها من المعارضة المسلّحة في أواخر عام 2016. ولذلك، من المتوقّع أن يكون هناك موقفٌ إيراني قاطع في رفض أيّ تقدّم للقوات التركية والجماعات المسلّحة الموالية لها من المعارضة السورية في شمال حلب، بالإضافة إلى موقف مماثل من قبل الحكومة السورية. ربّما يكون صحيحاً أنّ القيادة السورية تفضّل احتلالاً تركياً على وجود واقعٍ كورديٍّ مدعومٍ دولياً، لكن تل رفعت ليست جزءاً من هذا الواقع. وبالفعل، تؤكّد مصادر مطّلعة على ما يجري في منطقة الشهباء أنّ هناك تحالفاً عسكرياً واسعاً يتشكّل على الأرض بين القوى المسلّحة المعارضة للعملية التركية، بالتوازي مع زجّ المزيد من التعزيزات العسكرية من قبل الجيش السوري والميليشيات التابعة لإيران.

أمام هذه المعطيات، حتى إذا وعدت روسيا تركيا بسحب قواتها من المناطق التي تنوي تركيا مهاجمتها، سيكون من الصعب عليها أن تُرغم الإيرانيين، خاصّة، على القبول بذلك. لا سيما مع تزايد الضغط الإسرائيلي على الوجود الإيراني في جنوب سوريا ومحيط العاصمة دمشق. هذا يفتح المجال أمام مواجهة تركية - إيرانية قد تكون عبر وكلائهما في المنطقة.

شرق الفرات

فيما يخصّ مناطق شرق الفرات، الموقف أكثر تعقيداً أمام إمكانية شنّ تركيا عملية عسكرية فيها؛ فمن جهة، هناك المناطق التي يتواجد فيها التحالف الدولي، ولا يمكن أن توافق أميركا على أيّ عملية عسكرية تركية فيها. ومن جهة أخرى، هناك المناطق المشمولة باتفاقية 22 تشرين الأوّل 2019، التي أُبرِمَت بين روسيا وتركيا، في أعقاب غزو هذه الأخيرة لمنطقتي سري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض، بعد الانسحاب الأميركي منها. وبموجب هذه الاتفاقية، استطاعت روسيا، للمرّة الأولى، التواجد عسكرياً في مناطق شرق الفرات، مثلما استطاعت إدخال القوات الحكومية السورية إلى المناطق التي لم يكن مسموحاً لها الدخول إليها قبل الانسحاب الأميركي والغزو التركي. ومن الصعب على روسيا أن تتنازل عن هذا المكسب، خاصّة وأنّها تخشى أن تستغلّ أميركا، وبعض حلفائها الأوروبيون، أيّ انسحاب روسي من تلك المناطق وتحاول ملء الفراغ فيها، الأمر الذي سيُضعف الدور الروسي. وهنا، يمكن الإشارة إلى إعادة إرسال قوات أميركية، في أواخر إبريل 2022، إلى مواقع كانت قد انسحبت منها في أكتوبر 2019، مثل مطار الطبقة العسكري، على بعد 50 كم من مدينة الرقّة، ومقرّ الفرقة (17)، على بعد 7 كم من الرقّة. ربّما هذه المخاوف الروسية هي التي تفسّر مضاعفة روسيا لتحرّكاتها العسكرية في المنطقة عبر تكثيف الدوريات وإرسال تعزيزات إلى المناطق القريبة من خطوط التماس. كما أنّها كثّفت من لقاءاتها مع قوات سوريا الديمقراطية، وحاولت التوفيق بينها وبين الحكومة السورية، بما يعزّز مواقع هذه الأخيرة على حساب قسد في مسعى لإرضاء تركيا بنشر المزيد من القوات السورية في مواقع تواجد قسد.

كلّ هذه التعقيدات قد تُناقش خلال مباحثات أستانا التي انطلقت يوم الأربعاء، 15 حزيران، لتظهر الصورة على نحوٍ أوضح.

البعد الاقتصادي في التهديدات التركية

كان القرار الأميركي باستثناء مناطق الإدارة الذاتية، إلى جانب بعض المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، من العقوبات الاقتصادية محلّ امتعاضٍ تركيٍّ شديد، وذلك ليس خوفاً من إمكانية تحسين الأوضاع الاقتصادية والخدمية في مناطق الإدارة الذاتية فحسب، بل وأيضاً لما يحمله هذا القرار الأميركي من دلالات منح الخصوصية والرعاية لهذه المناطق. ولذلك تكثّفت التهديدات التركية في أعقاب هذا القرار، بالتزامن مع التطوّرات الدولية والإقليمية التي استشعرت تركيا بأنّها ستكون لصالح تعزيز دورها في سوريا على حساب روسيا، وأنّها ستكون في موقفٍ قد لا تلقى اعتراضات جذرية من أميركا وروسيا على خططها في عملية عسكرية جديدة في سوريا. ولا شكّ أنّ تركيا تريد قطع الطريق على مفاعيل هذا الامتياز الاقتصادي لمناطق الإدارة الذاتية، وستجتهد للحصول على دعم روسي في هذا المسعى لكون روسيا أيضاً معارضة لهذا الموقف الأميركي تجاه الإدارة الذاتية. يعزّز المخاوف التركية والروسية من هذا الإعفاء الحديث عن مشاريع تنموية في المنطقة، وخاصة الحديث عن إمكانية إعادة تشغيل معمل لافارج لصناعة الاسمنت، الواقع جنوب شرق كوباني على الطريق الدولي M4، والذي زارته مؤخّراً لجنة خبراء أميركية لإجراء دراسة لوضعه. والفرص المتاحة أمام تركيا، هنا، قد تكون طلب التعاون من روسيا من أجل ممارسة الضغوط لعرقلة هكذا مشاريع، ومحاولة إخضاع المعابر الحدودية، وخاصّة معبر سيمالكا لسيطرة روسيا والقوات الحكومية السورية، لقطع الطريق أمام الاستثمارات وخنق الإدارة الذاتية اقتصادياً.

خلاصة:

- يبدو أنّ فرص شنّ عملية عسكرية تركية واسعة تتضاءل لصالح عملية محدودة يكون الهدف منها حفظ ماء وجه القيادة التركية في الداخل من جهة، وتحريك الاتفاقيات مع روسيا وأميركا من جهة أخرى.

- قد تختار تركيا خواصر رخوة من قبيل أجزاء من منطقة الشهباء، وبعض ريف كوباني، من قبيل ناحية الشيوخ ذات الكثافة السكانية العربية.

- أي عملية عسكرية تركية لن تحظى بالموافقة التي حظيت بها عملياتها السابقة من قبل روسيا مرّة، ومن قبل أميركا مرّة أخرى.

- قد تُترك العملية لفصائل من المعارضة السورية في مواجهة القوات السورية وحلفائها لإنهاك الطرفين.

 

 

 

روداو

Top