• Monday, 23 December 2024
logo

هل يعد بوتين مشاغب العصر؟

هل يعد بوتين مشاغب العصر؟

يقول المفكّر والسياسي الكبير فلاديمير لينين: «هناك عقود لم يحدث فيها شيء، وهناك أسابيع تحدث فيها عقود». وخلال أشهر محدودة، أحدثت الحرب الأوكرانيّة ما يوازي عقوداً من الزمن، كأنها آلة لتسريع الوقت. هكذا هي حال العالم اليوم. أرادت أميركا الانسحاب من أوروبا، فأعادتها الحرب الأوكرانيّة بسرعة قياسيّة لقيادة الغرب ضد القيصر الروسي الجديد. أرادت الانسحاب من الشرق الاوسط، فأعادتها أزمة الطاقة إلى قلب الخليج العربي، المملكة العربيّة السعوديّة، لتستجدي العون والمساعدة لإنجاح صراعها الجيوسياسيّ مع الرئيس بوتين. إذن، ظهّرت الحرب هشاشة مفهوم العولمة، خصوصاً في الأبعاد التالية: الطاقة، الغذاء، وغياب المؤسسات الدوليّة، وحتى غياب الإطفائي الضروري لوأد الأزمات الخطيرة في مهدها. إذن، يُبحرعالم اليوم على متن سفينة ربّانها في غيبوبة، قد لا يصحو منها. ولكلّ عصر مشاغب يتحدّى النظام القائم. فهو يريد تغيير النظام القائم، وإنتاج نظام يناسبه.

لكن تكتّل القوى التي تريد «الستاتيكو» قد يُطيح به. في بدايات القرن التاسع عشر، كان نابليون مشاغب عصره. أراد احتلال كلّ أوروبا ونشر ثقافة الثورة الفرنسيّة، فتصدّت له الأنظمة القائمة، وأسقطته بالضربة القاضية. وأنتجت هزيمة نابليون نظاماً أوروبياً قائماً على كونغرس فيينا 1814 - 1815، الذي أعاد ترتيب النظام الأوروبي.

في القرن العشرين، كان هتلر مشاغب العصر. أراد أيضاً احتلال أوروبا وإخضاعها، فتكتّل العالم ضدّه، فهُزم، وأنتجت هزيمته نظاماً عالميّاً جديداً من صنع أميركيّ. كما أنتجت هزيمته المؤسسات الدوليّة المهمّة، وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة.

فهل يُهزم دائماً المشاغب في عصره؟ وهل يعود الأمر إلى موازين القوى التي تُطيح به؟ وهل تُتنج الإطاحة به نظاماً عالميّاً جديداً؟ إنه أمر ممكن.

ألم يُحدّد المستشار الألماني، أوتو فون بسمارك، ميزان القوى على أنه «اثنان ضدّ واحد».

هل يُصنّف الرئيس فلاديمير بوتين على أنه «مشاغب العصر»؟

يقول الخبراء إن هناك مشاغبين اثنين في العصر الحالي، هما الرئيس بوتين والرئيس الصيني تشي جينبينغ. بدأ الرئيس بوتين التخطيط للانقلاب على نظام العصر منذ أن قال: «انهيار الاتحاد السوفياتي أكبر كارثة جيوسياسية في تاريخ البشرية». كما شكّل خطابه عام 2007 في مؤتمر ميونيخ للأمن، خريطة الطريق لاستراتيجيّته، التي تقوم على «العالم متعدّد الأقطاب»، والقول إن «الناتو» وأميركا لا يظهران الاحترام اللازم لروسيا، ومعارضة توسيع «الناتو»، وعدم نشر منشآت الدفاع الصاروخي الأميركية في أوروبا الشرقية.

على المستوى الآيديولوجي، يعد الرئيس بوتين أن قيم الغرب ليست قيماً عالمية صالحة أينما كان، وأن لكلّ حضارة قيمها الخاصة بها. وغزا الرئيس بوتين أوكرانيا، فتكتّل الغرب ضدّه بزعامة أميركا، وعُزل عن العالم سياسيّاً واقتصاديّاً كما ماليّاً، فعدنا بذلك إلى تكرار تجرية المشاغب الذي يريد التغيير، مقابل تحالف كبير جدّاً يريد الحفاظ على «الستاتيكو» القائم.

مع الحرب على أوكرانيا، أسقط الرئيس بوتين مبدأ معاهدة وستفاليا الأهمّ، ألا وهو احترام سيادة الدول، وعاد مع هذه الحرب مفهوم الاجتياح، كما تغيير الحدود القانونيّة بين الدول بالقوّة العسكريّة التي لا تستند إلى شرعيّة قانونيّة. إذ ليس من الضروري أن يعترف العالم بتغيير الحدود القسري، كون موضة العصر الحالي تقوم على ظاهرتين قديمتين - جديدتين وهما «ما بين القانونيّ» و«الأمر الواقع» (De Jure & De Facto). بكلام آخر، تبقى سيادة الدول قانوناً محفوظة، لكن الأمر الواقع هو شيء مختلف. ليبيا، قانونياً، دولة ذات سيادة. لكن الأمر الواقع يقول بوجود قوى عالميّة تقاتلت على أرضها. وتنطبق هذه الحالة على كلّ من سوريا والعراق، وبدرجة أقلّ على لبنان.

هل طابقت حسابات الحقل حسابات البيدر بالنسبة للرئيس بوتين؟

بمجرّد أن غزا الرئيس بوتين أوكرانيا، اهتزّ النظام العالميّ القائم، وتظهّرت فيه مبادئ ومفاهيم أمنيّة - جيوسياسيّة جديدة. كما أحيت الحرب مفاهيم قديمة كانت تحتاج فقط الشرارة لتستيقظ، لكن بصورة معدّلة. وإذا اعتبرنا أن النصر دائماً هو عدوّ التحالفات، كونه يسقطها بمجرّد إعلان الانتصار، فإن حلف «الناتو» تحوّر (Mutated) بالكامل بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. لكنّه وجد علّة وجود جديدة معدّلة بعد الحرب على أوكرانيا، إذ خلقت هذه الحرب سبباً جوهريّاً لإعادة ترتيب خريطة الأمن القومي الأوروبي. وتمثّل هذا الترتيب بتوسّع الحلف بدل انحساره، كما طلب الرئيس بوتين من الغرب قبيل غزوه أوكرانيا. وبدل أن تغادر الدول الأوروبيّة قطار «الناتو»، بدأنا نراها تهرول مسرعة لتمتين العلاقة معه، وذلك من ضمن مفهوم «الأمن من ضمن القطيع» (Herd Security)، وذلك على غرار مناعة القطيع مع جائحة كورونا.

هل تبدو أميركا مستعدّة وقادرة على القتال على عدّة جبهات؟ ترتكز الاستراتيجيّة الأميركيّة الكبرى والتاريخيّة على الأسس التالية:

- عدم السماح لأيّ قوّة في أوروبا من أن تهيمن على القارة. وقد تدخلّت مرتين لضرب القوّة الألمانيّة.

- عدم السماح لأيّ قوّة في آسيا من أن تهيمن على القارة. وقد تدخلّت في الحرب العالمية الثانيّة ضد اليابان، كما استعملت النوويّ لإنهاء الحرب.

وتواجه اميركا اليوم في أوروبا المشاغب بوتين على الأرض الأوكرانيّة. وقد تواجه مستقبلاً المشاغب الآخر تشي جينبينغ في شرق آسيا على الأرض التايوانيّة، أو في محيطها.

لكن الثابت في كلّ الحالات، أن نتيجة مواجهة المشاغب هي عادة تشكُّل نظام عالميّ جديد.

 

 

الشرق الاوسط

Top