الانتخابات العراقية وأزمة الدولة
يحيى الكبيسي
لم يعرف العراقيون شيئا عن الانتخابات الحقيقية في تاريخهم الحديث، والذي بدأ مع تشكيل الدولة العراقية عام 1921؛ فقد جرت الانتخابات الرسمية الأولى بين عامي 1925 (حيث جرت اول انتخابات رسمية في ظل القانون الأساس/ الدستور الذي وضع في السنة نفسها) والعام 1958 (حيث نظمت آخر انتخابات قبل الثورة/ الانقلاب الذي حدث في العام نفسه). وفي بداية الثمانينيات، جرت انتخابات رسمية للمجلس الوطني/ البرلمان بدأت في العام 1980 وانتهت مع آخر انتخابات للمجلس الوطني عام 2000. لكن الجميع يعلم أن هذه الانتخابات لا يمكن أن توصف بأنها انتخابات حقيقية، لأنها فشلت في تمثيل الجمهور الذي يفترض أنه انتخبها!
بعد تغيير النظام في العراق، وتحديدا عام 2005، شهد العراق انتخابات أخرى تحت الاحتلال الأمريكي، وصفتها الطبقة السياسية آنذاك، وبكل صلافة، بأنها «عرس ديمقراطي حقيقي»! ثم عرف العراق بعد ذلك أربع دورات انتخابية لمجلس النواب اعتيادية في سياق دستور عام 2005، كانت أولاها في كانون الأول/ ديسمبر 2005، ثم انتخابات مبكرة عام 2021. شابت هذه الانتخابات الستة بطبيعة الحال، معضلات حقيقة، وتزوير منهجي، وانتهاكات، واعتراضات، واتهامات بين أطراف الطبقة السياسية المتصارعة؛ ففي انتخابات الجمعية الوطنية التي جرت في كانون الأول/ يناير 2005 والتي كانت مهمتها الأساسية كتابة دستور جديد، كما نص على ذلك قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية للعام 2004 حدثت مقاطعة شبه شاملة للسنة العرب، الأمر الذي اضطر الولايات المتحدة الأمريكية إلى الضغط من أجل ضم أفراد غير منتخبين لضمان التمثيل السني، شكليا، إلى لجنة كتابة الدستور، في انتهاك صريح لما نص عليه قانون إدارة الدولة نفسه!
وفي أول انتخابات، في ظل الدستور الجديد، جرت في كانون الثاني/ ديسمبر 2005، تقدمت أطراف بالطعن الصريح في دستورية القانون الذي جرت بموجبه تلك الانتخابات، وقد اعترفت المحكمة الاتحادية نفسها بهذا الانتهاك الدستوري حينها (القرار 15/ اتحادية/ 2006) لكنها بدلا من الالتزام باختصاصاتها وصلاحياتها الدستورية التي تنحصر في تفسير النصوص الدستورية أو النظر في الطعون المتعلقة بعدم دستورية التشريعات، وبالتالي عد كل ما ترتب على هذا الانتهاك الدستوري باطلا كما يقرر ذلك الدستور نفسه (قررت المادة 13/ ثانيا أنه يعد باطلا كل نص يرد في دساتير الأقاليم أو أي نص قانوني آخر يتعارض مع أحكام الدستور) أصدرت المحكمة قرارا مسيسا يعترف «بعدم دستورية» المادة 15 من القانون الذي جرت بموجبه تلك الانتخابات «لتعارضها مع أحكام المادة 49/ أولا من الدستور» لكنها لم تعد ما ترتب على هذا الانتهاك الدستوري، وهي انتخابات كانون الأول/ ديسمبر 2005، باطلة كما يقرر الدستور! في عام 2010 اعترض رئيس مجلس الوزراء على نتائج الانتخابات بعد أن جاء التحالف الذي يتزعمه في المركز الثاني، وطالب بإعادة العد والفرز «من أجل حماية التجربة الديمقراطية والحفاظ على مصداقية العملية الانتخابية… [و] حفاظا على الاستقرار السياسي والحيلولة دون انزلاق الوضع الأمني في البلاد وعودة العنف» كما قال! لكنه، في الوقت نفسه استخدم المحكمة الاتحادية، دون الاكتراث لضرورة حماية الديمقراطية، لإصدار قرار مسيس يتعلق بتفسير المادة 76 من الدستور التي تحدد الجهة التي تُرشح رئيس مجلس الوزراء (القرار 25/ اتحادية/ 2010) للالتفاف على ما أفرزته نتائج الانتخابات، والمفارقة هنا أن كل القوى الشيعية حينها قد تواطأت مع هذا القرار!
في انتخابات عام 2014 لم يختلف المشهد كثيرا، فقد أعلنت نتائج الانتخابات الأولية في منتصف أيار/ مايو، بالتزامن مع سيطرة تنظيم «الدولة» (داعش) على الموصل ومحافظات أخرى قبل مصادقة المحكمة الاتحادية على نتائج الانتخابات! يومها فازت كتلة دولة القانون في المركز الأول بـ 92 مقعدا، ولكن تداعيات سقوط الموصل، فضلا عن الفيتو الصريح من النجف بعدم عودة المالكي لولاية ثالثة، كل ذلك فرض على القوى الشيعية كافة إبرام صفقة من أجل إبعاد المالكي في آب/ أغسطس من العام نفسه، حيث دعمت هذه القوى انشقاقا داخل حزب الدعوة/ دولة القانون، وتواطأت على تسمية مرشح آخر غير المالكي لرئاسة مجلس الوزراء، يومها أعلن المالكي في كلمة تلفزيونية أن ما جرى هو «خرق دستوري» وأنه مصر على الدفاع «عن العراق والعملية السياسية والديمقراطية» وأنه من أجل ذلك «سيستمر في منصبه «ولن يكون هناك بديل بدون قرار من المحكمة الاتحادية» وبعكسه فإن هذا الخرق الدستوري «سيسقط العملية السياسية»! لكن الرجل عاد في اليوم التالي ليعلن «تنازله» عن هذا «الإصرار» ويقدم دعمه لرئيس مجلس الوزراء المكلف حيدر العبادي.
في انتخابات عام 2018 كان المشهد أكثر دراماتيكية، فالرافضون لنتائج الانتخابات، التي شابها التزوير والتلاعب الصريحان باعتراف الجميع، استطاعوا أن يصدروا قانونا في مجلس النواب، الذي لم تكن ولايته قد انتهت بعد، يقضي بعزل المفوضية العليا المستقلة للانتخابات وحلول قضاة، من مجلس القضاء، محلها مؤقتا، وإعادة العد والفرز اليدوي لأصوات الناخبين في جميع المراكز الانتخابية في عموم العراق، وإلغاء نتائج أصوات الخارج لجميع المحافظات فضلا عن انتخابات النازحين والتصويت الخاص في إقليم كوردستان! وقضت المحكمة الاتحادية بدستورية هذه المواد، باستثناء موضوع إلغاء النتائج التي أشار اليها القانون. لكن ما جرى بعد ذلك كان شيئا مختلفا تماما، فلم تتم إعادة العد والفرز اليدوي لأصوات الناخبين في جميع المراكز الانتخابية في عموم العراق كما قرر القانون، بل تمت إعادة العد والفرز اليدوي الجزئي، ولحد هذه اللحظة لا أحد يعرف كيف تم «تحريف» القانون، ومن قام بذلك، ولكن الجميع يعرف لماذا! اليوم، وبعد الانتخابات المبكرة التي جرت في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، والتي لم تعلن نتائجها بشكل رسمي حتى اللحظة، لا يبدو أن أحدا، كالعادة، تنبّه، في ضجيج الاعتراضات والتظاهرات، على أنه وبموجب المادة 20/ أولا من قانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، فإن الطعون إنما تقدم على قرار مجلس المفوضين وليس على نتائج تعلن على موقع المفوضية، ولحد هذه اللحظة لم يصدر مجلس المفوضين قراره المتعلق بنتائج الانتخابات لكي يتم الطعن فيها كما يقرر القانون، وبالتالي كل ما جرى حول مسألة الطعون هو انتهاك للقانون! والمفارقة هنا أن الهيئة القضائية نفسها بدأت بالنظر في الطعون المقدمة إليها، دون أن تنتبه إلى هذا الانتهاك القانوني الواضح. ولا يزال الجميع يدور في حلقة أزمة الدولة المفرغة، وتحليل سريع للمبادرات التي تحاول إيجاد حلول مفترضة للازمة المتعلقة بالنتائج، يكشف مدى عمق هذه الأزمة واعتباطية هذه المبادرات التي لا تزيدها إلا تعقيداً!
باسنيوز