• Sunday, 24 November 2024
logo

كيف تُنتج المشكلة الكوردية المافيا السياسية في تُركيا!

كيف تُنتج المشكلة الكوردية المافيا السياسية في تُركيا!

روستم محمود

 

يُمكن العثور على المشكلة الكوردية في كُل تفصيل مما ذكره الزعيم المافيوزي التركي، سادات بيكير، الذي اشتهر خلال الأسابيع الماضية، من خلال نشره لفيديوهات متتالية لاقت عشرات ملايين المشاهدات والمتابعات، فضح خلالها وقائع وشبكات الجريمة المنظمة في تركيا طوال ربع قرن مضى، وعلاقة تلك الشبكات بكِبار رجال السياسة والجيش وعالم الأعمال في البِلاد.

هذه الأطراف التي كانت ذات دور في تأسيس وإدارة تلك الشبكات المافيوية . فجرائم بيكير، مثل غيره الكثيرين من زعماء المافيا المُنظمة الآخرين ، كانت لغير صُدفة تؤدي إلى هدف واحد وبسيط، هو مَحْق أي إمكانية لظهور كورد تركيا ومسألتهم إلى سطح حركة التاريخ. 

مثل غيره من زعماء المافيا التركية، الذين كشفوا أوراقهم خلال السنوات الماضية، فإن أهم ما في اعترافات بيكير ليس كشف الجرائم المُرتكبة أو فاعليها، وهي بعمومها كانت معروفة للكلام العام في البلاد، بل توضيحه لذلك الكم الهائل من الترابط والتداخل والتغطية المتسلسلة المُتبادلة بين المؤسسات العسكرية والسياسية والمالية والمافيوزية في ذلك البلد. فكُل هؤلاء المتناقضين كانوا على الدوام مُجمعين على أمرين حتميين: الهدف النهائي والمؤازرة و"المُساكتة" المتبادلة.

وكأنه ثمة غول هائل، يشعر جميع هؤلاء المتناقضين افتراضاً بتهديد عظيم متأت منه ؛ لذا يتعاضدون لخنقه بكل الأدوات. كان ذلك "الغول" المتخيل هو ظهور الكورد ومسألتهم في ذلك البلد للوجود، فقط كذلك.

فوثائق واعترافات آلاف شبكات المافيا السياسية في تركيا كانت تقول حقيقة بسيطة، هي القابلية الرهيبة لـ "وحدات وطبقات القوة" في ذلك البلد، نواة ضُباط الجيش ورجال الأعمال ومجرمو المافيا وزعماء الأحزاب، على وضع تناقضاتها جانباً، والتركيز على هدف وظيفي جامع بذاته. 

في عقد التسعينيات فحسب، كان لزعيم حزب سياسي يساري مثل بولند أجاويد أن يتساوى نظير آخر تقدمي مثل مسعود يلماظ ، والاثنان مطابقان لإسلامي مثل نجم الدين أربكان وأخرى زعيمة لتيار قومي يميني مثل تانسو جيلر، والكُل طيِّع وقابل للتوافق مع زعماء الجريمة المنظمة، لممارسة القتل المنظم بحق رجال الأعمال والمثقفين والشخصيات الاجتماعية والسياسية الكوردية، وبتغطية من أجهزة الأمن والجيش، ودعم من رجال الأعمال، لخلق إرهاب جماعي لكتلة كُبرى من سكان البلاد، ومن خارج أي قانون أو بند دستوري.

مسيرة تسعينيات تركيا من القرن المنصرم كانت متمحورة على منع أفراد وتنظيمات الجماعة الكوردية حتى من التفكير بالمطالبة بالحد الأدنى من الحق السياسي الأولي لأي إنسان: الاعتراف بوجود جامعة أهلية اسمها الشعب الكوردي. باقي العقود كانت صورة مُطابقة لذلك تماماً، لكن مستوى القلق في الحياة السياسية خلال ذلك العقد، جعله الأكثر انكشافاً فحسب. 

ففي سبيل خلق ذلك الرُهاب، كانت جبال التناقضات الإيديولوجية والسياسية والمصالح وإمكانية الغدر المتبادل تذوب تماماً بين تلك الجهات الأربعة، ويجري التعاون فيما بينها بكل سلاسة، وكأنها بداهات ومُعطيات ثابتة. خصوصاً وأن تلك الطبقات المتعاونة كانت تتآمر على بعضها البعض في كامل الملفات الأخرى، مرة بعد أخرى، والتاريخ السياسي التركي شاهد كيف أن بعضها أوصل الآخر إلى حبال المشنقة أكثر من مرة ، لكن ما حدث مرة أن غدرت ببعضها في هذا الملف بالذات.

النواة السببية الصلبة للمافيوزية السياسية وتعاقباتها المتتالية دون توقف في التاريخ التركي الحديث تتطابق مع النواة السببية النظيرة لحدوث الانقلابات العسكرية المتتالية في هذا البلد.

ففي كلا الحالتين، وبسبب وجود المشكلة الكوردية، فإن سلطة البلاد تجد نفسها مُجبرة على الانشطار إلى مستويين متوازيين: واحد ظاهر، مثوب بالخطابات وادعاءات قيم الجمهورية والحداثة والعلمانية والديمقراطية، تتعامل مع حاجات الكيان السياسي التركي، بالذات مع صورته وعلاقاته الخارجية. ومستوى آخر من الدولة، مخفي ومستبطن، هو عالم الخفاء "القذر"، الذي يجمع العصابات المنظمة بقيادات الأجهزة الأمنية ومؤسسات الدولة العميقة، التي تمارس عنفاً منظماً من خارج القانون المُعلن، التي لها قانون واحد فحسب يُرشدها "محق بروز القضية الكوردية". 

على الدوام كان ثمة تعاون "مثمر" بين المستويين من الدولة، لكن الغريزة الداخلية لمؤسسة ونخبة الدولة العميقة كانت تتوجس من قدرات الدولة الظاهرة، من حيث عدم إمكانية تعاملها مع المسألة الكوردية من مبدأ المحق.

فنوعية المؤسسات والمعايير والقيم "المُرهفة" التي كانت تقوم عليها تلك الدولة الظاهرة، كانت تفسح المجال أمام بروز بداهة مثل المسألة الكوردية. لأجل ذلك فإن الدولة العميقة كانت تعمل على مؤازرتها بشكل رديف ودائم، تتولى المهام الصعبة عنها، تعمل على شكل شبكات من عصابات الجريمة المنظمة المسكوت عنها "المافيا السياسية" في الأحوال العادية، وعلى شكل انقلابات عسكرية في الحالات القصوى. 

تأسس الأمر منذ الأوقات التأسيسية للدولة التركية ، وربما قبلها. فمع إرسال عصبة الأمم للجنة "كنج كرين" إلى المناطق الكوردية من تُركيا الحالية عام 1919، لتقصي آراء أهلها بشأن مصير علاقتهم مع الدولة التُركية، من حيث الانفصال عنها أو البقاء ضمنها حسب بنود اتفاقية سيفير، كان الجيش الكمالي يُرسل جُنده إلى الأعيان الكورد، ليمارسوا ترهيباً واضحاً ضدهم إذا ما طالبوا بغير ما كانت الكمالية تُفكر به في باطن وعيها، وهو إلغاء الكورد تماماً. 

بُعيد ذلك الحدث مُباشرة، سار في تُركيا خطان من القضايا العامة، مُطالبات كوردية مُستمرة ما توقفت قط ، على شكل ثورات وحروب وقوى سياسية، تطالب ببداهة الوجود، وديناميكيات مع أفعال الدولة العميقة غير المُعلنة، تريد خنق تلك البداهة، حيث أنه ليس لبداهة أن تُفند بأدوات المنطق العادية، خصوصاً لو كانت في دولة تدّعي تبنّي القيم السياسية للحداثة العالمية. 

بعد مرور سنوات قليلة من ذلك التأسيس، صارت هذه المسألة الكوردية بمثابة السببية التي تفعل شيئين مرتبطين: تسمح للجماعة الأهلية "القومية التركية المُسلمة السُنية الحنفية" أن تُحافظ على موقعها المتمايز، كقوة أهلية "صاحب الدولة"، وحيث ما كان لها أن تحفظ ذلك دون ذلك الغول الوظيفي الذي خلقته على شاكلة "المسألة الكوردية"، لأنها تعتبر نفسها جهاراً صاحبة مهمة تاريخية تتمثل في الحفاظ على وحدة البلاد.

الأمر الآخر تمثل بتحول المسألة الكوردية إلى الصمغ القادر على ربط مصائر مجموعة من الأقوياء المتناقضين، الجيش وأصحاب الأموال والساسة وزعماء المافيا، الذين لا يستطيع أحدهم أن يُلغي الآخر، بدعوى ما قد يخدم به ذلك الإلغاء المسألة الكوردية. وهؤلاء الذين، لولا المسألة الكوردية وما تشكله من تهديد لدعايتهم الخطابية وشكل مصائرهم المترابطة، لأوصل أولُ مستيقظٍ منهم صباحاً الآخرين النائمين إلى حبل للمشنقة.

 

 

باسنيوز

Top