هل هناك نصّ عصيّ على الترجمة؟ قصة عبد الله البرزنجي مع العربية والكردية
July 2, 2020
مقابلات خاصة
ولد البرزنجي في العام 1957 وتخرج من كلية الآداب قسم اللغة العربية سنة 1980. اهتم بالقصة والشعر والنقد الادبي والترجمة، وكتب دراسات عدة عن الأدب الكردي الحديث باللغتين العربية والكردية، ويعد من النقاد القلائل الذين حاولوا وبذلوا جهداً لاستقبال المناهج النقدية الحديثة وقراءة النصوص الأدبية الكردية بها..حاوره: عماد الدين موسى
عبد الله طاهر البرزنجي، شاعر وناقد ومترجم كُردي، يكتب باللغتين العربية والكردية، ويترجم من اللغتين العربية والفارسية. هنا حوار معه حول ثقافته الموسوعية وأعماله المتنوعة.
- تمتلك واحدة من بين أضخم المكتبات الشخصية في العراق وربما في المنطقة ككل. وليست لديك حياة اجتماعية، ولا انتماء إلى أي طائفة ثقافية، بحيث تمضي معظم وقتك منذ عقود، مع الكتاب وحده، قراءة وتأليفاً وترجمة..
حبّذا لو تحدثنا عن شغفك بالكتاب؟
- تعود علاقتي وشغفي بالكتاب إلى الطفولة، فتحت عيني على المكتبة والكتب في منزلنا، والدي كان معلماً يقرأ الكتب ويشتري الجرائد اليومية، أخي الشاعر هشام كان يزودني بالكتب ويطلعني على المصادر والمجلات الهامة، كان من شعراء السبعينيات في الشعر الكردي، وبدأ يكتب وينشر في أواخر الستينيات، وكان يجلب إلينا الكتب بكثرة من بغداد. في هذه البيئة استغرقت في هذا العالم ووجدتُني متعلقاً بالكتاب، ورأيتُني منخرطاً في هذا العالم السحري ونسيتُ، مثل صوفي وزاهد، ملذات الحياة وفضلتُه على معظم الأشياء.
وقتما أبتعد يوماً عن منزلي أشتاق إلى مكتبتي وأصدقائي الورقيين الذين يوفرون لي المتعة والمنفعة والحس الجمالي، على نحو أفضل من بعض الأصدقاء الحقيقيين الذين نعاشرهم في الحياة اليومية. لا أخالط الأدباء إلا في حالات نادرة متعلقة بالشؤون الثقافية، قلَّما أحضر سهراتهم وتجمعاتهم الليلية. هكذا تفوقت علاقتي مع الكتاب على العلاقات الاجتماعية، ورفضت، من أجل الكتاب والقراءة والكتابة، مقترحات عديدة لأدير كالشخص الأول الشؤون في أعمال هامة، وتركتها بمحض إرادتي لأصدقائي وللآخرين، وبذلتُ كالجندي المجهول الجهدَ الجهيد لإنجاح العمل معهم.
توزعت كتبي على مكتبات، الأساسية العامرة في البيت، وأسستُ مكتبة خاصة لي في مقر مجلتنا، ومكتبة ثانية في دائرتي الحكومية تضم الإصدارات الجديدة والهدايا وبعض المراجع. هكذا توزعت أوقاتي على الكتب والقراءة والكتابة في البيت وأماكن أخرى.
في ثمانينيات العراق خاطرت وجازفتُ بحياتي من أجل جمع وجلب الكتب الفارسية من إيران، أي في عز وأوج الصراع الإيراني – العراقي الدموي، وذلك بواسطة المهربين على الحدود. ازداد ولعي بالفارسية التي درستها سنتين في قسم اللغة العربية في إحدى جامعات العراق. هكذا توزعت اهتماماتي القرائية والكتابية، فترجمتُ مئات النصوص والمواضيع وعشرات الكتب من هذه اللغات.
بلغت مكتبتي في تاريخها الطويل رقماً خيالياً جعلها تتميزُ بين المكتبات الشخصية، إلا أن التنقل و التشرد والهجرة و وعدم استقرار الوضع، حالت دون احتفاظي الكامل بها، إضافة إلى ذلك، صودرت وضاعت آلاف منها من قبل المستعيرين، وتعرضت في فترات إلى حملات البيع القسري، فضاعت وتبخرت منها آلاف، خاصة في وقت الحصار القاسي.
- يقال بأنك تحجب نفسك كشاعر في المشهد الشعري الكردي ،
وتقدم دائما غيرك من الشعراء، حتى الشباب منهم... أهذا نمطك الشخصي في الزُهد الثقافي؟
- أنا مزدوِج اللغة. الكردية لغتي الأم وأكتب باللغة العربية أيضاً. نشأتُ في بيئة دينية صوفية مثقفة، فتعلمت مبكراً أسرار اللغة العربية وبلاغتها وأدبها، أي قبل دخولي كلية الآداب-قسم اللغة العربية، فكتبت النصوص والمقالات باللغة العربية، ونقلت من هاتين اللغتين نصوصاً ومواضيع جميلة. بداياتي كانت مع القصة وسرعان ما وجدتُ نفسي في أحضان الشعر والنقد والترجمة.
في سؤالك الكثير من الحقيقة، ربما نجم هذا الزهد الثقافي عن زهدي في الحياة. أصدقائي الأدباء، أقصد المنصفين الذين تتبعوا أعمالي عن كثب، يوجهون اليَّ هذا السؤال، فأقول لهم إنني لا يمكنني أن أظل صامتاً أمام جمال الآخرين، حتى الذين يكنون لي العداء أو يضمرون في نفوسهم شيئاً مقيتاً (ولو أنني لا أعادي أحداً) فاختارُ نصوصهم للترجمة أو أكتب مقالات ودراسات عن تألقهم.
في الغالب ينسيك جمالُ النص بواطنَ صاحبه إن كانت غير منسجمة مع جوهر الجمال، رغم أنني أفضّل أن يكون خالق الجمال جميلاً في حياته ونصه أيضاً. أذكر لك مثالاً، قبل سنوات طلب مني صديقي القاص العراقي عبد الستار البيضاني، رئيس تحرير مجلة "الأقلام العراقية" أن أعد ملفاً عن الأدب الكردي، واقترحَ أن يتضمن الملف قصة أو نصاً شعرياً لي، إلا أنني لم أرسل له أي نص لي، بل انتقيت له نصوصاً من مختلف الأجيال الشعرية والقصصية الكردية، من جيل الرواد والسبعينيات وأدباء المشهد الراهن من الشباب. طبعاً مجلة الأقلام البغدادية مجلة قديمة وحديثة هامة ومعروفة، بلغ الملف الخاص بالأدب الكردي تسعين صفحة.
ينبغي ألا نحتكر الثقافة لإرضاء ذواتنا فقط. بالتأكيد أنت لا تقصد الزهد في النشر، لأنني غزير الإنتاج في الترجمة والتأليف، وقد بلغت نتاجاتي المطبوعة أربعين كتاباً باللغتين العربية والكردية، فضلاً عن مئات المقالات والدراسات وهي تنتظر المراجعة والتنقيح والتصحيح النهائي كي تبصر النور في كتب.
في الأدب الكردي عشرات الأصوات والتجارب المبدعة لم تحظ بمقالة نقدية قصيرة، ويعزى السبب إلى غياب النقد الجاد والمترجم المنصف والترجمة الدقيقة. في حركة الترجمة من الكردية إلى اللغة العربية لم يأخذ معظم المترجمين جدولاً سليماً أو قائمة مرتبة بعين الاعتبار، بمعنى آخر، إنني أحس بغياب مشروع ثقافي جاد ومرتب لنقل نصوص المبدعين وهم كثر، يركزون على مبدع واحد أو مبدعين أو ثلاثة، عبدالله كوران مثلاً، وهو رائد الشعر الكردي الحديث، وكأن الشعر الكردي انقطع بموته، في حين نقرأ لعشرات المبدعين جاؤوا بعده وأضافوا الكثير إلى الأدب الكردي، أدبنا ذو مشهد واسع وعريض يحتوي على تجارب وأصوات مبدعة، لا يمكن الاطلاع عليه من خلال قراءة وترجمة شخصين أو ثلاثة أو...
- نظراً لإتقانك لعدة لغات، وترجمتك للأدبين العربي والفارسي إلى اللغة الكردية
وكذلك ترجمتك للأدب الكردي إلى العربية، فأنت تتوسط هذه الثقافات، وتشكل إحدى معابرها الأساسية... كيف وجدت هذا الشغف في تجسير الثقافات عبر الأدب؟
-هناك نقاط تقارب كثيرة بين هذه الشعوب، الدين والحضارة والتقاليد، تبعاً لذلك نجد في آدابهم قواسم مشتركة وأحاسيس وتخيلات شرقية، وحتى أساليب متشابهة، طبعاً مع احتفاظ كل منها بخصوصيات قومية. أحياناً أقرأ رواية كردية وكأنها ذات أحداث تقع في عموم الشرق الإسلامي، أو أطالع رواية عربية أو فارسية أو تركية وكأنها تطرح هموماً يتناولها أو تناولها كاتب كردي.
عشت مع اللغة الكردية وآدابها منذ الطفولة، تعمقت في العربية أيام الدراسة والكلية ودرَّستها سنوات، فاطلعت من خلال ذلك على الثقافة العربية وتاريخ الأدب العربي وحركات الحداثة. قرأت وأقرأ ما يقرؤه أي أديب عربي. في مكتبتي الأعداد الكاملة لمجلات عديدة، مثلاً فصول المصرية وجميع أعداد مجلة شعر اللبنانية، أعداد مجلة لغة العرب، أما بالنسبة إلى اللغة الفارسية فلي معها قصة طويلة تعود إلى منتصف السبعينيات، بقيت في إيران سنتين، وازداد اهتمامي بها عندما دخلتُ كلية الآداب قسم اللغة العربية – جامعة السليمانية. كانت دراسة اللغة الفارسية فيها لمدة سنتين إجبارية، كانوا يخيرونك بين إحدى هذه اللغات، الفارسية، التركية، العبرية، فوقع اختيار جميع الطلبة على اللغة الفارسية، أستطيع أن أقول إن 50% من مكتبتي فارسية، ثقافتي مزيج من آداب هذه الشعوب علاوة على اكتساب ثقافة الشعوب والأمم الأخرى.
- كانت دراستك للغة العربية في الجامعة مدخلك إلى الأدب العربي.
والذي تحول لاحقاً إلى مشروع كبير لترجمة الشعر العربي، وتحديداً الحديث منه، إلى اللغة الكردية، والذي تعكف عليه منذ سنوات، وأنجزت منه ترجمات عدة، منها مختارات لسنية صالح وعباس بيضون ورفعت سلام ومحمد آدم ومحمد الماغوط، وآخرين غيرهم، وقد كان آخر من ترجمتهم من العربية إلى الكردية، مختارات للشاعر الراحل أمجد ناصر، ماذا تود أن تحدّثنا عن هذا المشروع؟
قصتي مع الأدب العربي طويلة، ضرب منها يتعلق بترجمة نصوص متفرقة في الصحف، أوقفني ويوقفني جمالها فاضطر لنقلها إلى اللغة الكردية، لا يهمني في هذه الحالة لِمَن يكون النص، بل تعنيني نسبة الجمال الإبداعي فيه. أحياناً يصادفني نص لكاتب مغمور لكن السحر الإبداعي الكامن فيه يأسرني، فأقرر ترجمته بدون أن أخذ عمر وتجربة صاحبه بعين الاعتبار، هل هو شاب أم مبدع يمتلك تجربة طويلة. في نظري ليس كل أديب شاب مبدعاً على الدوام، وليس كل أديب متقدم في السن يفتقد الإبداع بمجرد وصوله الخمسين أو الستين أو السبعين، أحيانا نجد أديباً شاباً يكتب نصاً مترهلاً هالكاً طاعناً في السن وفي الوقت نفسه نرى كاتباً طاعناً في السن ينجز إبداعاً كبيراً رائعاً، أي هناك نص شاب ونص كهل، الأول ربما ينجزه أديب متقدم في السن في بعض الأحايين، والثاني قد يكتبه شاب في مسيرته الإبداعية، لا أقيس الإبداع بالسن. هناك استثناءات، خذ بعض النوابغ في الأدب، رامبو أو الشاعر المجري شاندور بتوفي أو الشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد.
من هذا النوع ترجمتُ الكثير تشتت في ثنايا وزوايا الصحف، بالأخص صحف السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات.
في المرحلة الثانية تعددت المنافذ الثقافية ودور النشر، لذا لم أكتف بهذا النوع، بل فكرت في ترجمة وطبع مختارات شعرية لذوي التجارب ممن برزت أصواتهم، بالأخص لِمَن لم يطلع عليهم الجيل الكردي الثقافي الجديد.
مرة طلبت مني دار نشر كردية أن أعد و أنجز لها سلسلة الشعر العربي المترجَم، معلوم أن دور النشر تفكر في الربح أيضاً، فأرادت أن أبدأ بأدونيس ومحمود درويش، في الحقيقة لم ألب طلبها، لكونهما مشهورين ومعروفين ومترجَمَين إلى الكردية ومقروئين باللغة العربية في كردستان من قبل أدباء وقراء السبعينيات والثمانينيات، ثم أنني ترجمت لأدونيس أكثر من ستين نصاً إلى الكردية في الصحف وأعددت ملفاً كاملاً خاصاً به، قلتُ لصاحبها سأرجئ أدونيس إلى وقت آخر، سأتفرغ لجانب منه، أما بالنسبة إلى محمود درويش فلي مشروع يتضمن مختاراته وكتاباته النثرية ورسائله ومقابلاته، أنجزه لاحقاً.
درويش يمتلك عالماً بسيطاً في الظاهر وعميقاً جداً في الأغوار، قلت له دعني أخصص وقتاً آخر للحفاظ على نقل العمق البسيط لنصوصه، وقد نقله صديقي الأديب والمترجم الجاد آزاد البرزنجي، قلتُ بعد نقاش طويل، دعني أطلع الجيلَ الجديد على مشهد الشعر العربي الحديث المتنوع، ففيه أصوات لا تأتلف كثيراً مع السابقين ولها ما يميزها.
بلغ عدد المختارات الشعرية تسعة كتب حتى الوقت الحاضر، والقائمة تطول وتتنوع لتقديم المبدعين في الشعر العربي والأدب بشكل عام.
- مَن من هؤلاء الشعراء كان الأقرب إلى أسلوبك في الكتابة الشعرية؟
- لكل منهم اسلوبه الخاص، بلا شك نسبة القرابة الأدبية والجمالية تختلف أيضا، لماذا أدنو كثيرا من سيلفيا بلاث و لوركا وأنطونيوا ماتشادو والشاعر الإيراني أحمد رضا أحمدي و وديع سعادة وتشارلز سيميك ،وبيلي كولينز، لكن هذه القرابة تختلف مع شاعر آخر ؟ ربما يكمن السر في أشياء تتعلق بداخلي وأغواري أنا ، اضافة إلى ثقافتي ورؤيتي إلى الدنيا والحياة والأشياء ونظرتي النقدية إلى الشعر والحمولة الجمالية لنصوص وتجربة هذا أو ذاك . مثلا ترجمتُ (أسمال ) جان دمو بعد صدورها في بغداد ، الغرابة والدهشة الشعرية في حياته هي التي دفعتني إلى ترجمة نصوصه ، وليست أشعاره بالدرجة الأولى ، ففي جماعة كركوك - وجان واحد منهم - تجد فاضل العزاوي وسركون ومؤيد الراوي يتفوقون عليه بثقافتهم وعوالمهم الشعرية المدهشة. طبعا ترجمتُ مع نصوص الكتاب عدة آراء حوله ومقابلة معه ومقالا نقديا للناقدة العراقية فاطمة المحسن ،والمثير للأمر هو الاحتفاء الجميل بالكتاب من قبل القراء والشعراء الشباب خصوصا ممن يحبون الصعلة و حياة الصعاليك . وطلب مني الروائي الراحل سعدي المالح المدير العام للثقافة السريانية في حكومة اقليم كردستان العراق أن يعيد طبعها.
عكفتُ على ترجمة محمد الماغوط لأقدم أشهر وأبرز صوت من الأصوات التي كتبت الشعر الحر بشكله الصحيح بعيدا عن سلطة التفعيلات ونظامها التقليدي الثابت. حسب التعريف الصحيح الوارد والمكرر في المعاجم الاوربية وحتى العربية الحديثة ، لا يعد محمد الماغوط ناثرا كما ادعت نازك الملائكة ولا كاتبا لقصيدة النثر، وانما يُعتبر جبرا ابراهيم جبرا ومحمد الماغوط وتوفيق صايغ وووو من أبرز كتاب الشعر الحر البعيد عن الوزن والقافية. في مختارات محمد الماغوط التي ترجمتُها في ذلك الكتاب كتبتُ دراسة ( ليست مقدمة تعريفية )، وضحتُ فيها سببَ دعوتي لترجمة الماغوط والغموض النقدي العربي الخاطئ في تصنيفه شعريا، هذه الإلتباسات النقدية حصلت أيضا لدى الكرد وفي النقد الفارسي أيضا.
ترجمتُ لعباس بيضون مختارات شعرية، طُبع الكتاب في إحدى مطابع طهران. كان المفروض أن يحضر المهرجان في السليمانية وتنظم له دار نشر غزلنوس أمسية احتفالية، بَيد أنه لم يتمكن من الالتزام بالموعد، فجاء بعد سنة وقرأ نصوصاً باللغة العربية، وقرأتُ أنا ترجمة القصائد بالكردية في ليلة شعرية صاخبة، حضرها أدباء من إيران وتركيا وأوروبا ومحافظات العراق. اطلعتُ على عالم عباس بيضون في أواخر السبعينيات، خاصة من خلال ديوانه الشعري القيم (صور) ولم تبرح أجواء وفضاءات قصيدته ذاكرتي، لمستُ في مسيرته المتواصلة عمقاً شعرياً وتقدماً رائعاً في إضافة شيء نادر إلى قصيدة النثر العربية في تحولاتها الجديدة، بعد جهود شعراء مجلة شعر (أدونيس، شوقي أبي شقرا، أنسي الحاج...).
شعرية الألم المرير هي التي حدت بي لترجمة الشاعرة الراحلة سنية صالح، شاعرة هادئة تغلبت عليها شهرة الماغوط. ما يدهشني في أدب هذه المرأة هو انها لا تحاكي زوجها محمد الماغوط، بل تعتز بعالمها الخاص الحافل بشعرية الألم المرير وأسلوبها الخافت البعيد عن الصراخ والعويل، على العكس من زوجها الميال إلى التمرد والرفض والسخرية المريرة والصورة الصادمة واللغة القاسية. لم تكن سنية ظلاً بل أصبحت صوتاً منفرداً قائماً بذاته.
اخترت وترجمت عباس بيضون وشوقي أبي شقرا ورفعت سلام والمبدع الراحل أمجد ناصر، لأضع أمام أنظار القارئ الكردي مشهداً من مشاهد قصيدة النثر العربية، لقد أغنى هؤلاء حركة الحداثة العربية في ارتقائها ووصولها إلى آفاق جديدة من خلال تقديم الهوية الصحيحة لقصيدة النثر
ترجمتُ لشوقي أبي شقرا كافة نصوص مجموعته (ماء إلى حصان العائلة) المطبوعة عام 1962 والحاصلة على جائزة مجلة شعر اللبنانية، ومختارات من مجاميعه الأخرى، وهو من آباء قصيدة النثر العربية، إلى جانب أدونيس وأنسي الحاج، إلا أنه لم ينل قسطاً وافراً من الاهتمام، قلتُ في نفسي، ينبغي أن أرفد وأزود حصان العائلة بمياه كردية وأخدمه من خلال الترجمة. هذه المجموعة الشعرية علامة متميزة وسعي مبكر في قصيدة النثر.
- لماذا ترجمتُ مثلاً شوقي أبي شقرا، وخاصة مجموعته "ماء إلى حصان العائلة"؟
- وجدت أثناء قراءتي ودراستي نصوص شعراء الطليعة الكردية (وهم شعراء من أربيل برزوا في أواخر السبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن المنصرم) تشابهاً وتقارباً بينهم وبين شوقي أبي شقرا، من حيث تركيب الصور الغريبة واللغة الغامضة والأجواء السريالية الصادمة، بالذات الأجواء السريالية الريفية التي يُميز بها شوقي أبي شقرا نفسه عن السريالية الفرنسية، مثلما يقول هو في اللقاء المترجَم معه (أجراه معه سليمان بختي) الذي يتصدر المختارات المترجمَة إلى الكردية.
في هذه المناسبة أجذب انتباهك إلى أن الشاعر الكردي عباس عبد الله يوسف، مال مبكراً إلى استثمار النثر وتوظيف المفردات الشعبية والأجواء القروية وتكريسها بغية توليد السريالية المشبعة بالتراث والمفردات الريفية الشعبية في الشعر الكردي. دعمتُ طرحي هذا بثقافة عباس عبد الله يوسف واطلاعه الجدي على شعراء مجلة شعر اللبنانية، وتصريحاته وإشاراته أكثر من مرة إلى شوقي أبي شقرا. عباس عبد الله شاعر معروف ومثقف ممتاز ومن أبرز شعراء الجماعة. هؤلاء يعرفون اللغة العربية أيضاً ويطالعون بها ويوجد بينهم من كتب بها مراراً.
باعتقادي أن كل نص يُتَرجَم ينقل إلى اللغة الثانية نكهة غريبة، تنوع وتُغني معالمها وآفاقها، لا أريد أن أضطهد النصوص المترجَمَة وأقسرها على أن تتوارى معالمها ونكهتها العربية في اللغة الكردية، بل أريد منها أن تمنح القارئ الكردي خصوصية وطابع وجمال أدب آخر يُنقَل إليه.
تشرف منذ سنوات على مجلة " كلاويز" الفصلية التي تصدر باللغة العربية. وأنت عضو اللجنة العليا لمهرجان كلاويز الثقافي. والذي يستضيف سنويا مثقفين عرب وأيرانين كمشاركين دائمين، مع استضافة ثقافة أخرى مختلفة كل سنة... باعتقادك، ما هي الإضافات التي شكلتها هذه المجلة وكذلك هذا المهرجان ؟
- أنا بعيد منذ زمن عن مركز كَلاويز، غادرتُه بعد تقديم خدمات ثقافية متنوعة منذ بدايات تأسيسه عام 1996، كنتُ من المؤسسين الأوائل ، في البداية تم تكليف مجموعة من الأدباء للقيام بمهام التأسيس وتقديم الطلب للحصول على موافقة وزارة الثقافة . دخلتُه وأنا عمري 38 سنة في عز القوة الجسدية ، وغادرته بمحض إرادتي ، بعد أربع وعشرين سنة مرتديا نظارة سميكة وفي جيبي ما يكفي لأدفع به أجرة التاكسي لتعيدني إلى البيت ،غادرته مليئا بعبق ذكريات مختلفة لأصدقاء منهم من رحل إلى الأبدية ومنهم من غادر البلد لتلسعه عقارب المنفى، ومنهم من ظل طريح الفراش يصارع المرض.
تأسس هذا المركز في أوج الحصار الاقتصادي ، وتأسست معه مباشرة مجلة ( كَلاويزي نوي) باللغة الكردية فقط، بعد صدور أعداد أصبحتُ رئيسا للتحرير. لم أكتف بهذا فأسستُ عام 2000 النسخة العربية للمجلة وأصدرنا 37 عددا منها.
ظهرت مجلة كَلاويزي نوي في زمن الشحة الورقية وتوقُفِ المطابع عن العمل وحجب المجلات وبؤس حياة الأدباء ، أزمات مالية في مدن كردستان و بغداد ومدن الجنوب أيضا ، فاضطر الأدباء إلى طبع نسخ قليلة من دواوينهم و مجاميعهم القصصية عن طريق أجهزة الاستنساخ ، فشاع بين الأدباء والمثقفين وفي كتاباتهم مصطلح ( ثقافة الإستنساخ) .هكذا تجاوزنا محنة ثقافة الإستنساخ.
استقطبت المجلة أصوات مبدعين من الكرد والعرب ، خصوصا من كتاب العراق فتناولوا في مقالاتهم ودراساتهم الأدب الكردي المترجَم، حيث أسهم نقاد عراقيون في دراسة الأدب الكردي من خلال الترجمة ، أمثال الأساتذة ، فاضل ثامر ، ياسين النصير، الدكتور حاتم الصكر، الناقد عباس عبد جاسم، الدكتور حسن ناظم ، الأستاذ ناجح المعموري، والأكاديمي د .فائق مصطفى والشاعر والناقد علي حسن الفواز، الدكتور مالك المطلبي، الدكتور ناظم عودة ، القاص جاسم عاصي، الدكتور محمد صابر عبيد ، الناقد كريم شغيدل والاستاذ يوسف يوسف والأستاذ عواد علي والشاعر واثق غازي والدكتور حمد الدوخي والدكتور أحمد الظفيري والأستاذ رشيد هارون والناقد أمجد نجم الزيدي والناقد عبدالستار جبر والدكتورسعيد عبدالهادي والكاتب علوان السلمان والشاعر شاكر سيفو وآخرين . بوسعي القول أن حركة نقدية عربية نشطة ظهرت بفضل هؤلاء الأساتذة ألقت الضوء على الأدب الكردي المترجَم ، جهود تستحق التقدير بحق، فضلا عن قيامنا بإعداد ملفات خاصة بالأدباء الكرد والآداب العالمية وحوارات مع كتاب لهم وقعهم الخاص في الأدب العربي: فاضل العزاوي ، صنع الله ابراهيم، هاشم صالح ، فاضل ثامر، الشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان ، ياسين النصير وووو.
علاوة على ذلك تجد في أعداد المجلة ملفات خاصة بأدباء كرد بارزين، بلغ كل ملف تسعين صفحة، يعني كان تغطية شاملة خاصة بمسيرة الأديب وسيرته وتجربته الأدبية.
مرَّ مركز كَلاويز بمراحل عديدة، في البداية كان محليا ثم استقطب وجمع كُتابا من إيران وتركيا وبعض الدول العربية، أما في مرحلته الثالثة فتجاوز هذين الطابعين وسعى للاتصال ببعض الكُتاب من فرنسا واسبانيا وألمانيا فأسهموا في نشاطات المهرجان وجلساته الليلية، ودأب على تخصيص محاور خاصة بثقافة وأدب الشعوب والبلدان، منها الثقافة الفرنسية والألمانية والأرمنية والمغربية والفارسية.
يعجبني في مهرجان كَلاويز تواصله بدون انقطاع من 1996- 2020 يعد هذا التواصل مكسبا كبيرا في تاريخ المهرجانات الكردية، لقد فرضت الظروف الصعبة على المهرجانات الكردية ألا تتواصل كثيرا، بَيد أن كلاويز انفلت من هذا الواقع المرير وسجل التواصل.
بسبب الأزمة المالية أغلقَ المركز فروعه في المدن وأوقفَ مجلته وسلسلة كتبه كي يديم عمر مهرجانه فقط. وحسب معرفتي أن الأصدقاء الباقين في المركز أكملوا الإستعدادات لتنظيمه إلا أن الكورونا أفسد الأمر. وما دمتُ في باب الإشادة بالمواصلة في الشأن الثقافي الكردي فلابد أن أذكر جهود الأصدقاء في مجلة (رامان) التي تصدر في أربيل، وبالأخص الصديق آزاد عبدالواحد رئيس تحريرها الذي حرص ويحرص منذ منتصف التسعينيات على إعداد وإخراج المجلة بدون أي إنقطاع وتقاعس، شيء عظيم أن تصدر مجلة شهرية أدبية ثقافية في موعدها المحدد بلا أي تأخر وتأخير، منذ ما يربو على 25 عشرين سنة وهذه المجلة تجمع الأدباء من أوروبا ومختلف البلدان بدون أي كلل ، لولا صراع آزاد ودفاعه المستميت عنها لتوقفت مثل باقي المجلات الكردية الأخرى. لو كنتُ في مكان الحكومة والأحزاب لألغيت بعض القنوات الفضائية المتشابهة ودعمتُ بنفقات يوم واحد لإحداها، مجلات مثل (رامان) ودور نشر أهمِلت وتوقفت أو أصابها الشلل.
ـ لمن تقرأ حالياً ؟
* تَعودتُ على قراءة مجموعة كتب في وقت واحد. أقرأ الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر والروائي المغربي عبد اللطيف اللعبي. تابعت أعماله منذ السبعينيات، نصوص من هنا وهناك ، هذان المجلدان شيئ آخر يمنحك فرصة الإطلاع الموضوعي على مشهده الشعري المتكامل ، مجلدان يضمان كافة أعماله الشعرية ، أرجع بين قراءة مجموعة شعرية وأخرى له إلى المجلد الثالث وهو يحمل عنوان ( القراءة العاشقة) ويحتوي على حوارات ثقافية معه ومقدمة بقلم الناقد شرف الدين ماجدولين .
وانتهيت من قراءة رواية فارسية للكاتب ( آرش آذربناه ) وهي رواية مكثفة وقصيرة لجأ فيها الكاتب إلى الإفادة من تقنيات ما بعد السرد ( ميتافكشن) .
- وهل من مشاريع جديدة ؟
* طبعا لدىَّ مشاريع متنوعة مع الآداب الكردية والعربية والفارسية ، بعضها ينتظر النور وبعضها في طور النشأة والنمو و بعضها الآخرفي طور التكامل.
ولد البرزنجي في العام 1957 وتخرج من كلية الآداب قسم اللغة العربية سنة 1980. اهتم بالقصة والشعر والنقد الادبي والترجمة، وكتب دراسات عدة عن الأدب الكردي الحديث باللغتين العربية والكردية، ويعد من النقاد القلائل الذين حاولوا وبذلوا جهداً لاستقبال المناهج النقدية الحديثة وقراءة النصوص الأدبية الكردية بها. أعدّ أضخم أنطولوجيا للشعر الكردي الحديث. وطبعت في بيروت سنة 2008، كما أصدر 40 كتاباً باللغتين العربية والكردية، حيث ترجم الى الكردية مختارات شعرية لكل من: جان دمو، عباس بيضون، أمجد ناصر، رفعت سلام، محمد الماغوط، سنية صالح ومحمد آدم. بالإضافة إلى خمسة كتب نقدية باللغة الكردية، كتب عشرات المقالات والدراسات النقدية باللغتين العربية والكردية.
Raseef 22.net